مرة أخرى، يتجلى المشهد السياسي في موريتانيا على حقيقته: وجوه قديمة تعود بملامح جديدة، ونخب مترهلة تستعيد مواقعها، وكأن المناصب الوزارية ملكية عائلية تنتقل بالوراثة داخل طبقة واحدة لا ترى في غيرها جدارة ولا كفاءة.
منذ عقود، ينهك هذا الوطن بوباء التسيير السيئ والفساد الإداري، ومع ذلك ما زال الحكم حبيس دائرة ضيقة من أبناء شريحة واحدة، وكأن الكفاءات الأخرى محكوم عليها بالإقصاء الأبدي. فأي تجديد هذا الذي يتحدثون عنه؟ وأي إصلاح يزعمون وهم لا يجددون إلا أقنعة المفسدين؟
إن الدولة ليست مزرعة عائلية ولا ضيعة قبلية. لكن واقع التعيينات يُثبت العكس: مناصب سيادية وحقائب وزارية حساسة تظل حكراً على نفس الوجوه، وكأن الشعب الموريتاني، في تعدده وتنوعه، قد اختُزل في سلالة بعينها.
أين أبناء الطبقات المهمشة؟ أين العقول التي أثبتت كفاءتها في ميادين شتى؟ لماذا يُتركون على هامش الحياة السياسية، وكأنهم غير جديرين بخدمة وطنهم؟ أهي عنصرية مقنّعة أم سياسة طبقية ممنهجة لإبقاء السلطة في يد الأقلية المترفة؟
إن خطاب “الإنصاف” المرفوع اليوم ليس إلا واجهة براقة تخفي وراءها واقعاً مرا: إعادة إنتاج نفس النخبة التي صنعت الفشل وتوارثت الفساد. فهل يُعقل أن يتغير الحال بالذين كانوا جزءاً من المشكلة وصاروا اليوم يُقدّمون على أنهم صناع الحل؟
لقد بُنيت هذه الدولة على هرمية وهمية، حيث يُرفع البعض فوق الجميع بحجة الانتماء، ويُداس آخرون بحجة الأصل أو الطبقة. والنتيجة واضحة: وطن منكوب، شعب مسحوق، ونظام سياسي يُصر على إدارة الوجع بالوجوه نفسها.
إن التوافق الطبقي الذي يُدير منطق التعيين ليس سوى وجه آخر للاستبداد، وسيظل عائقاً أمام أي مشروع وطني صادق. فموريتانيا لن تُبنى بترميم أنقاض الماضي ولا بإعادة تدوير رموزه، وإنما بفتح الباب أمام جميع أبنائها دون تمييز ولا إقصاء.