الرأي

بين السهوب المُخضَرَّة

الدده محمد الأمين السالك

روى لي أحد الموريتانيين الذين أثق بهم رواية غريبة، بطلتها مواطنة موريتانية كانت في عطلة في إحدى الدول المتقدمة غير العربية.

كان مُحدثي في مهمة محددة في تلك الدولة، واستدعاه طالب موريتاني يدرُس هناك.

الحي الذي يسكنه هذا الطالب كان أحد الأحياء الراقية مليئا بالعمارات والفيلاهات والفنادق الفاخرة.
إلى أحد تلك الفنادق جاءت سيدة موريتانية مُصطافة صحبة أطفالها الثلاثة..وبدلا من أن تستأجر غرفة في الفندق بملحقاتها- وهي كافية وتزيد لأسرة كاملة لغرض السكن- استأجرت السيدة جناحين كاملين متقابلين من الفندق بملحقاتهما لإسكانها وأطفالها الثلاثة ولم تكتفِ حتى بجناح واحد بملحقاته..فماذا تفعل هي وثلاثة أطفال بجناح كامل فكيف بجناحين؟.. الغرض واحد : هو التبذير الغبيُّ ولاشيء غير ذلك .

خارج استهلاك السيدة وأطفالها الثلاثة في المعاش والتنقل -وغير ذلك مما الله أعلم به- عليكم أن تتصوروا تكلفة غرفة وملحقاتها في فندق في تلك الأماكن السياحية الراقية.. فكيف بجناحين كاملين لسكن سيدة وثلاثة أطفال .
أي غباء هذا وأي جهل وأية حماقة ؟.. في أية خانة نضع هذا التصرف الغريب ؟

ملايين الدولارات ذهبت سدى أُخذت من دخلنا الوطني ومن رصيدنا من العملات الصعبة وأُهدرت دعما لاقتصاد دولة أخرى، إشباعا لنزوات “سيدة” طائشة ومن ورائها ” سيد ” يقبلُ- إن لم يكن المخطط والمنفذ – هذه التصرفات الرعناء!!!

وددتُ لو سألت هذه “السيدة” ومن خلفها : هل سمعوا في حياتهم أن جبار السماوات والأرض سيسألهم عن مالهم من أين اكتسبوه وفيمَ أنفقوه..أم إنهم لايؤمنون أصلا بهذا الموقف أمام ربِّ العزة جل جلاله ؟

أعتقد أن هذا السؤال سيكون وجيها: على ماذا سيتربى هؤلاء الأطفال الصغار؟..فالطفل صنو إبيه.. طبعا سيتربون على عقلية التبذير والروح الإستهلاكية المدمرة لإرادة الإنسان والمُهلكة لعنصر الطموح لديه..فهؤلاء الأطفال معرضون للضياع بكل المقاييس-إن كانوا يقتدون بأبويهم.
من جهة أخرى أليس لهؤلاء أقارب محتاجون..أليس لهم أهل يصلون أرحامهم..وإذا لم يكن لديهم أقارب محتاجون، ألا يرون فقراء بلدهم أولى بالمعروف من فنادق الدول المتقدمة!!.
حكاية هذه “السيدة” لم أفتعلها بحثا عن سبب للحديث عن هذا الموضوع، بل هي حادثة عاشها من رواها لي رأي العين..وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على الكثير من السفهِ والغباء وضعف الوعي والاستهتار بالقيم الدينية والأخلاقية وسوء الذوق ورداءة الحس الحضاري وتدني الرؤى الحسية والنفسية والجمالية.

السياحة ليست هدراً للمال بين جدران الفنادق ولا التسكع على بين شوارع الدول للبحث عن متعة زائفة في التبذير.. السياحة الحقيقية هي ما نجده بين الواحات والمناظر الخلابة في السهول المُخضرَّة وكهوف الجبال الوارفة الظِلال وظلال الأشجار المُصطفة على ضفاف الغدران وشواطئ أنهُر الخريف.

فليس هناك أجمل ولا أكثر طمأنينة للنفس وراحة للبال من نسيم الأصائل بين السهوب والهضاب الموريتانية وهي ترتدي حلة الخريف الخضراء.. تمتدُّ بساطا موشى بالجمال الطبيعي أمام الناظر..تتخللها المياه الزرقاء وتحفها الجبال المتسربلة بالرمال الناصعة البياض التي تحتضنها بحنان حيثُ تختلطُ حُمرة الصخورة المُهيبة ببياض الرمال الناعمة التي تنساب بأبهة تختال متبخترة تتخلل ثنايا الصخور الداكنة، لتنشأ من هذا الخليط الرائع صورة غاية في الجمال والرومنسية ومُلامسة النفوس.

والأروع من ذلك أن هذه الصور ليست خاصة بمكان عن غيره..فموريتانيا كلها من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها مهد لهذه الصور..فأنى حللت فى هذه الأرض الطيبة المُباركة سترى مايُريحك ويملأ نفسك بهجة وسرورا وطمأنينة.

وليس هناك ماهو أجمل من زيارة الأقارب ومعايشتهم بين المروج الخضراء حيث الصفاء والألفة والود الخالص والمروءة الفطرية والكرم الأصيل وجلسات شواء اللحم الطري على نار هادئة وتعاطي كؤوس الشاي المنعنع المصنوع على جمر الخشب.
إنها الرومنسية بأبهى صورها والعيش فى أحضان طبيعة ساحرة بكر فى لحظات شاردة من لحظات أحلام اليقظة تخلد فيها النفوس إلى عالم من الراحة لا أول له ولا آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى