الرأي

التعيينات الإدارية في موريتانيا: مفارقة “فساد مكافحة الفساد”

محمد محمود الشيباني

تُظهر التجربة الإدارية والسياسية في موريتانيا أن الشعارات المرفوعة لمحاربة الفساد كثيرًا ما تُناقضها الممارسات الواقعية على الأرض. فبينما تتحدث الخطابات الرسمية عن “إصلاح الإدارة” و“تطهير مفاصل الدولة”، فإن الآلية التي يُروّج لها في مكافحة الفساد باتت هي نفسها شكلاً من أشكال الفساد. فهل من الحكمة محاربة الفساد بتعيين شخصيات معروفة بعدم النزاهة، وأثبت التاريخ تورطها في ممارسات مشبوهة منذ حقبة معاوية ولد الطايع؟ أليس في ذلك تجسيدا لمفارقة صارخة تُعرف بـ”فساد مكافحة الفساد”؟
إن شعار مكافحة الفساد، في الواقع، يتهاوى أمام موجة التعيينات المتكرّرة التي تُعيد نفس الوجوه القديمة إلى مواقع السلطة، في تناقضٍ واضح بين الخطاب والممارسة إذ أن تعيين المفسدين في مفاصل الدولة لا يمكن أن يُنتج إلا مزيدًا من الفساد فالنظام الإداري نفسه بات بيئة حاضنة له لا آلية لمواجهته.
ومن المظاهر الغريبة التي تكشف هذا الخلل، ظاهرة “إعادة التموقع”؛ حيث يُعاد تعيين مسؤولين فشلوا في أداء مهامهم، أو أُقيلوا بسبب شبهات، في مناصب شكلية مثل “مستشار وزير” أو “مكلف بمهمة”، وهي مواقع تتيح لهم الحصول على رواتب وامتيازات من دون أي مسؤوليات حقيقية. هذا النمط الإداري لا يعكس سوى رغبة في مكافأة الولاء لا الكفاءة، ويكشف استمرار عقلية الريع داخل أجهزة الدولة.
إن الأنظمة الإدارية الموريتانية المتعاقبة، حسب بعض الباحثين، هي نتاج تراكمي لعوامل تاريخية، بعضها يمتد إلى فترة الاستعمار الفرنسي، حين فُرضت هياكل إدارية تخدم السيطرة على الموارد لا خدمة المواطن. واليوم، وبعد أكثر من ستين عامًا على الاستقلال، ما تزال تلك البصمات واضحة في الطريقة التي تُدار بها التعيينات وفي طبيعة العلاقة بين السلطة والإدارة.
فرغم وجود كفاءات وطنية مؤهلة تحمل شهادات عليا، فإن التعيينات العليا لا تزال رهينة العلاقات الشخصية والسياسية، بعيدا عن معايير الجدارة والخبرة. وغالبًا ما تتم وفق الولاء لشخصيات نافذة، سواء كانوا وزراء أو جنرالات أو رجال أعمال متنفذين. وتعيد هذه البنية الزبونية إنتاج الفساد وتضعف المؤسسات، لأنها تكرّس التبعية وتمنع قيام إدارة مهنية مستقلة. وهنا تتجلى بوضوح آثار النموذج الاستعماري الذي اعتمد على تعيين ممثلين محليين يسهل التحكم فيهم لخدمة مصالح السلطة القائمة.
وتزداد خطورة هذه الظاهرة حين تُستخدم المناصب الإدارية كوسيلة لضمان الولاءات السياسية أو تسهيل الوصول إلى المال العام. فبعض التعيينات لا تستهدف الكفاءة أو الخدمة العمومية، بل تُمنح لمن يُظهر استعدادًا لخدمة مصالح أفراد أو شبكات نافذة، في مقابل غض الطرف عن الفساد المالي والإداري. وهكذا تتشكل “دوائر نفوذ” جديدة تتغذى من المال العام وتُغذّي بدورها منظومة الفساد.
ولا يمكن إغفال العامل القبلي الذي ما زال يحكم الكثير من التعيينات. فاختيار بعض المسؤولين في مواقع حساسة يتم أحيانًا على أساس الانتماء القبلي أو الجهوي، لا على أساس الكفاءة. هذه الممارسات تُعيد إلى الأذهان طريقة المستعمر في إدارة البلاد، حين كان يعتمد على الزعامات التقليدية لتسهيل حكمه وضمان الولاء المحلي.
إن مجمل هذه الممارسات تجعل من النظام الإداري الموريتاني انعكاسًا لتشابك النفوذ السياسي، القبلي، والاقتصادي، وتكشف أن الإصلاح المزعوم ما زال رهين شبكة من المصالح التي تتقن رفع شعار “محاربة الفساد” بينما تُمارس نقيضه في الواقع.
وفي ضوء ذلك، يمكن القول إن الهيكل الإداري الموريتاني الحالي مازال يحمل بصمات الاستعمار في طريقة التعيينات، وفي استدامة الفساد والمحسوبية، مما يفرض ضرورة إعادة النظر جذريًا في منظومة التسيير والتعيين داخل الدولة. فمكافحة الفساد لا تكون بإعادة تدوير رموزه، بل بإرساء نظام شفاف قائم على الكفاءة والمساءلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى