الرأي

فلسفة الفساد في موريتانيا: من سوء التسيير إلى بنية الاختلاس

محمد لغظف أبتي (أستاذ فلسفة)

حين نقرأ تقرير محكمة الحسابات الموريتانية الأخير، نجد أنفسنا أمام لغة دقيقة ومنضبطة تحاول الحفاظ على الحياد المؤسسي، لكنها في الوقت ذاته تكشف — من حيث لا تقصد — مأساة عميقة في بنية الإدارة العمومية. فالمحكمة، بصفتها جهازًا رقابيًا، تميّز بين ما تسميه «سوء التسيير» و«الاختلاس»، مؤكدة أن كثيرًا من المخالفات لا ترقى إلى مستوى الجريمة المالية المباشرة. لكن هل يكفي هذا التوصيف الإداري لطمس جوهر الظاهرة؟ وهل الفساد فعل مادي فحسب، أم هو منظومة فكرية ومؤسسية تتيح انزلاق المال العام إلى الأيدي الخاصة باسم الإجراءات؟

إنّ الفصل بين سوء التسيير والاختلاس، رغم وجاهته القانونية، يصبح في السياق الموريتاني غطاءً يُخفف من وقع الحقيقة على الوعي العام: فحين يتكرر سوء التسيير في مؤسسات متعددة، وبالأنماط ذاتها من التجاوزات — عقود غير مطابقة، نفقات دون تبرير، غياب متابعة، أو تحويلات غير مفسّرة — فإننا لا نكون أمام أخطاء عفوية، بل أمام منظومة متكررة تشير إلى فسادٍ مُمأسس. الخطأ حين يصبح قاعدة لا يعود خطأ، بل سياسة.

لقد قدّمت محكمة الحسابات جهدًا مؤسسيًا كبيرًا في الكشف عن الثغرات، لكنها وقفت عند حدود التوصيف لا الإدانة، وكأنها تشير من بعيد إلى أن المشكلة ليست في «نية السارق»، بل في النظام الذي سمح له بالسرقة دون أن يُسمى سارقًا. هنا تتجلى المفارقة: أن يتحول سوء التسيير إلى شكلٍ من أشكال التواطؤ الهادئ بين السلطة والمجتمع، حيث تُرفع الشعارات ضد الفساد، وتُترك القنوات مفتوحة له في العمق.

من زاوية الفكر السياسي، يمكن تفسير هذه الظاهرة بما يسميه علماء الاقتصاد السياسي “نموذج الوكالة”، حيث يفوض الحاكم أو الجهاز المركزي صلاحياتٍ واسعة لوكلاء ومسؤولين دون رقابة صارمة، فيستغل هؤلاء مواقعهم لتحقيق مصالحهم الخاصة. غياب الحوافز الإيجابية والرقابة الفعّالة يجعل «الوكيل» يعمل لمصلحته لا لمصلحة «الموكِّل» أي الدولة والمجتمع. وبذلك يصبح سوء التسيير — في جوهره — انحرافًا ممنهجًا في العلاقة بين السلطة والمسؤولية.

كما يمكن قراءته من خلال نظرية “طلب الرِنت” (Rent-Seeking)، وهي من أبرز المفاهيم التي تشرح كيف تتحول المؤسسات العامة إلى أدواتٍ لإنتاج الامتيازات غير الإنتاجية. فحين تُفتح الثغرات الإدارية، وتُعطى الصلاحيات دون معايير شفافة، تتحول تلك الثغرات إلى فرصٍ للربح الشخصي عبر النفوذ والرشوة والمحسوبية. سوء التسيير هنا ليس عَرَضًا من أعراض الفساد، بل هو أسلوبه المؤسسي، طريقته في البقاء دون أن يُسمّى باسمه الحقيقي.

الواقع أن تقرير محكمة الحسابات، رغم لغته المتحفظة، يثير أسئلة جوهرية لا يمكن تجاهلها:

هل هناك معايير واضحة تفصل بين الخطأ الإداري والاختلاس؟

هل أُحيلت الملفات التي تضمنت تحويلات أو أرباحًا خاصة إلى القضاء؟

هل يتكرر سوء التسيير في قطاعات معينة دون غيرها، ما يدل على وجود شبكات مصالح منظمة؟

وهل يملك الجهاز الرقابي استقلاليته الكاملة أمام النفوذ السياسي أم أن حدوده مرسومة بعناية حتى لا يتجاوز “الخط الأحمر” للمحاسبة؟

إنّ الفكر السياسي الحديث — من مونتسكيو إلى جون لوك، ومن روسو إلى توكفيل — يعلّمنا أن الرقابة بلا مساءلةٍ حقيقية تتحول إلى مسرحية مؤسسية، وأنّ الدول التي لا تفعّل مبدأ “تلازم السلطة والمسؤولية” تنزلق إلى ما يسميه المفكر الألماني ماكس فيبر «البيروقراطية الفاسدة»؛ حيث تتغلب القواعد الشكلية على جوهر العدالة، فيبدو كل شيء قانونيًا، بينما تُنهب الموارد من الداخل ببطءٍ وهدوء.

الفساد في موريتانيا لا يمكن قراءته كاختلاس نقدي مباشر فقط، بل كنتاجٍ لبيئة سياسية واقتصادية تغيب عنها الشفافية وتضعف فيها أدوات الرقابة الشعبية والإعلامية. فحين تُختزل المحاسبة في نشر تقرير سنوي دون متابعات قضائية حقيقية، يصبح التقرير وثيقة للتاريخ لا أداةً للإصلاح. لقد أظهرت التجارب الدولية — كما في رواندا وسنغافورة بعد الاستقلال — أن محاربة الفساد لا تحتاج شعارات بل بنية مؤسساتية صارمة تربط كل تصرف إداري بمسؤولية قانونية معلنة، وتجعل من سوء التسيير نفسه جريمة، لا مجرد “ملاحظة” في تقرير.

وإذا كان البعض يرى أن محكمة الحسابات «لا تُدين بل تُلاحظ»، فإن السؤال الأعمق هو: من يُدين إذن؟ من يملك الجرأة على تحويل التقارير إلى ملفات، والملاحظات إلى تحقيقات، والتحقيقات إلى أحكام؟ إنّ غياب هذه السلسلة هو ما يجعل الفساد يعيش بيننا كظلٍّ دائم، لا نراه إلا في المناسبات، ثم يختفي وراء العبارات التقنية.

إنّ كلّ ما نعيشه اليوم من عجزٍ تنموي، وتراجع في الخدمات، وتفاقم في الفقر، ليس سوى النتيجة الطبيعية لهذه المنظومة الرمادية، حيث تتحول الموارد العامة إلى «ريع سياسي» و«ولاء إداري»، وحيث تُسكت محكمة الحسابات بلغةٍ دبلوماسية عن ما يجب أن يُقال صراحة: أن سوء التسيير هو الوجه اللغوي للاختلاس.

إنّ مواجهة الفساد في موريتانيا لا تبدأ من فتح ملفات الماضي فقط، بل من إعادة تعريف معنى المسؤولية العامة، وإعادة صياغة علاقة المواطن بالمؤسسة. يجب أن تُبنى الرقابة على الشفافية لا على الخوف، وأن يُربط الخطأ الإداري بنتائجه الاقتصادية والاجتماعية لا بمجرد تقارير تصحيحية. عندها فقط، لن يكون في قاموسنا مصطلح “سوء تسيير”، بل جريمة اسمها “خيانة الأمانة العامة”.

وفي النهاية، سيظل السؤال مفتوحًا أمام كل من يقرأ تقارير محكمة الحسابات:

هل نعيش في دولةٍ تخاف من تسمية الأشياء بأسمائها؟

أم أننا ما زلنا نؤمن بأن “الاختلاس” لا يبدأ من سرقة المال، بل من لحظة السكوت على سوء التسيير؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى