قراءة شخصية في كتاب “الرجل ذو العالم المحطم” لمؤلفه عالم النفس السوفيتي الكساندر لوريا
محمد لغظف أبتي (أستاذ فلسفة)
آخر تحديث: 27/10/2025 - 11:54 ص
2 دقائق
أدركت أنني أصبحتُ قارئًا يسقط خلفيّته الصوفيّة على كل ما يقرأ ، فلا أتعامل مع النصوص على أنها حروف على الورق، بل ككائناتٍ حيّة تتنفّس بين المعاني وتستدعي البصيرة لا البصر. لذلك حين فرغت من قراءة كتاب «الرجل ذو العالم المحطم» لعالم النفس الروسي ألكسندر لوريا، شعرت كأنني خرجت من تجربة كشفٍ صوفيّ لا من كتاب علميّ.
لم أكن أمام دراسة عصبية عن مريض فقد جزءًا من دماغه، بل أمام سفرٍ في طبيعة الإنسان، في تلك المسافة الدقيقة بين المادة والروح، بين انكسار الدماغ واستمرار الوعي في التماس الحياة. كان لوريا أكثر من طبيبٍ وعالم أعصاب؛ كان شاهدًا على معجزة الوجود، يكتب لا بوصفه باحثًا سريريًا، بل كمن يرى في الألم طريقًا إلى الفهم. بطل الكتاب، الجندي الروسي زبنييف، أصيب في الحرب برصاصة حطمت الفص الجداري الأيسر من دماغه، ففقد قدرته على تصور العالم كما كان، وتحوّل وعيه إلى شظايا مبعثرة. ومع ذلك، يكتب لوريا في مقدمة الكتاب: «لقد كان أمامي رجل فقد عالمه الخارجي، لكنه لم يفقد إصراره على أن يعيد بناءه من جديد»، وكأنّ في هذا القول إشراقًا صوفيًا يعلن أن الإنسان لا يموت حين يتحطم، بل حين يتوقف عن المحاولة. في سرده لتجربة زبنييف، لا يصف لوريا حالة طبية جامدة، بل رحلة روحٍ تحاول أن تتذكر الطريق، إذ يقول في أحد الفصول: «كان يمد يده نحو الأشياء كما لو كان يكتشفها لأول مرة، لم يكن يتعرف عليها بعقله، بل بشيءٍ آخر داخله، شيء يشبه الحنين إلى العالم المفقود»، هنا يتحول الطب إلى تأملٍ في معنى الإدراك، وكأنّ الوعي مرآة تتفتت ثم تحاول جمع شظاياها لتنعكس فيها الصورة من جديد.
وبين سطور الكتاب، يمكن للقارئ أن يلمح روح فيغوتسكي، أستاذ لوريا وصديقه، في فكرة أن الفكر يولد من التفاعل بين الإنسان والعالم، غير أن لوريا تجاوز هذا التصور ليرى أن التفاعل لا ينتهي حتى لو تحطم الجسر بينهما؛ فحتى في غياب القدرة على الفهم، يبدأ الإنسان في بناء فهمٍ جديدٍ، غامضٍ، حدسيٍّ، أشبه بالتأمل الصوفي الذي ينشأ بعد الفقد.
إنّ «الرجل ذو العالم المحطم» ليس حكاية عن تلف دماغي، بل عن محاولة الروح أن تظل متصلة بالوجود رغم انكسار أدواتها، ولعلّ أعمق ما كتبه لوريا في هذا السياق قوله: «لم يكن وعيه ميتًا، بل كان يبحث عن لغة جديدة ليُعبّر بها عن الحياة»، وهي عبارة تكاد تختصر جوهر التجربة الإنسانية كلها. لقد رأيت في زبنييف صورة الإنسان المعاصر، الذي فقد اتساقه بين الذاكرة والزمن والذات، ومع ذلك يواصل ترميم عالمه من حطام التجربة، مثلما قال ابن عربي: «ما من غيبةٍ إلا وفيها حضور»، فحين يغيب جزء من الدماغ، تحضر الروح بطريقة أخرى لتعويض الغياب.
إنّ الكتاب، في جوهره، دعوة إلى الإيمان بقدرة الوعي على البعث بعد الانكسار، وإلى فهم أن الإنسان لا يُقاس بسلامة دماغه، بل بعمق إرادته على أن يظل حاضرًا. لقد استطاع لوريا، في زمن مادي صارم، أن يكتب بلغةٍ عرفانية تستبطن معنى الصبر الروحي، إذ يقول في خاتمة عمله: «إنّ ما تحطم في دماغه لم يكن هو العالم كله، بل طريق الوصول إليه، أما الإرادة فقد بقيت سليمة كالنجم الذي لا يطفئه الغبار»، وهذه العبارة وحدها كافية لتجعل من الكتاب نصًا يتجاوز الطب إلى ميتافيزيقا الإنسان.
خرجت من قراءتي له وأنا أؤمن أن علم النفس حين يتقاطع مع الفلسفة والروح، يتحول من دراسةٍ للسلوك إلى كشفٍ للسر الإلهي في الكائن البشري، وأن لوريا، دون أن يقصد، كتب عن مفهوم «البقاء بعد الانكسار» كما لو كان شيخًا صوفيًا يحدّثنا عن «الفتح بعد المحنة».
لم تعد المسألة عنده إصابةً عصبية، بل تجربة وجودية تُذكّرنا بأنّ الإنسان، حتى لو تحطّم عالمه، يظل قادرًا على إعادة خلقه، لأنّ في داخله جوهرةً لا تنكسر، هي جوهرة الوعي ذاته ف”حتى لو تحطّم العالم من حولك، فإن القدرة على بناءه من جديد هو ما يجعلك إنسانًا.”