ثقافة وفن

تأملات مسائية

محمد لغظف أبتي

التفكير ليس فعلاً من أفعال الدماغ، بل تجلٍّ من تجلّيات الروح حين تستيقظ على سؤالها الأول: من أنا؟ ولماذا كل هذا الوجود يتكلم بلغة لا يفهمها إلا من صمت طويلاً؟ إنّ التفكير هو رحلةُ كائنٍ وُضع في العالم غريباً ليكتشف فيه غربته، فيتبيّن أن الغربة ليست عن الناس بل عن الزيف الذي يلبسهم، ومن هنا يبدأ الفكر الحقيقي حين يتجاوز المرئي ليُلامس الغيب الذي يسكن في المعنى.

قال النبي ﷺ: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”، وما الغرابة إلا ثمرة التفكير العميق، إذ لا يشعر الغريب إلا من رأى الأشياء بعين لا تراها الجموع، من عاش بين الناس جسداً، لكنه أقام في ذاته وطناً. إنّ المفكّر، في عمق معناه، مسافرٌ في لانهائية الوعي، يقطع المسافات بين المعقول واللامعقول، بين الإيمان والدهشة، بين اليقين والبحث المستمر. لقد أدرك سقراط أن الحكمة تبدأ من الاعتراف بالجهل، وقال الغزالي إن طريق اليقين يمرّ عبر الشك، بينما صرخ نيتشه بأنّ الفكر لا يولد إلا من الألم، وفي تلاقي هذه الأصوات المتناقضة نفهم أنّ التفكير ليس وسيلةً للنجاة من الحيرة، بل فنّ السكنى فيها بوعيٍ مطمئنٍّ. من يفكر بصدق يتواضع كما تتواضع الأرض حين تستقبل المطر، لأنّ الفكر لا يثمر في نفسٍ متكبرة، بل في روحٍ تعلم أن المعرفة بحر لا شاطئ له، ومن هنا يصبح المفكر الحقيقي أكثر الناس تواضعاً، لأنه أكثرهم علماً بجهله، وأكثرهم قرباً من الله لأنه أكثرهم فهماً لضعف الإنسان أمام عظمة الخلق.

الفكر الحق لا يجعلك متعالياً، بل يجعلك معقداً برقيّ، بسيطاً بعمق، متناقضاً بانسجام، إنه يمنحك القدرة على أن تكون في العالم دون أن تكون منه، أن تنتمي إلى الإنسانية كلها، وأن تظل في الوقت نفسه فرداً لا يُشبه أحداً.

في كل لحظة تفكيرٍ صادق تُعاد صياغةُ الكون في داخلك، فكرْ حتى ترى الأشياء تتغير ألوانها في بصيرتك، حتى يصبح السؤال صلاتك، والدهشة وضوءك، والتواضع مقامك، حينها فقط تدرك أنّ أعظم نعمةٍ هي أن تفكر، وأعظم فكرٍ هو أن تعي أنك تفكر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى