الرأي

عام من الوعود المؤجلة: قصة إخفاق وزارة التعليم العالي في ملف طلبة الدكتوراه

الرايس أعل التلي كاتب وباحث

 

 

عام مضى على أزمة مقاعد الدكتوراه في موريتانيا، وهي الأزمة التي تحوّلت من فرصة أكاديمية واعدة إلى مرآة عاكسة تكشف ارتباك السياسات وضعف التخطيط وغياب الجدية في التعامل مع مصائر مئات الباحثين الشباب.

بداية القصة

منذ الثالث عشر من سبتمبر 2024 حين أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي فتح باب الترشح لمقاعد الماستر والدكتوراه في دول المغرب العربي، بدا وكأن الوزارة تضع لبنة جديدة في مسار ابتعاث الطلبة. غير أن ما تلا ذلك من أحداث كشف عن ارتباك إداري عميق، وتناقض في القرارات، وانعدام للرؤية الاستراتيجية في تدبير ملف مصيري يتعلق بأجيال كاملة من الباحثين.

ففي غضون أسابيع قليلة، انتقلت الوزارة من نشر لوائح أولية تضمنت مئتين وتسعة مقاعد، إلى مطالبة الطلبة باستكمال ملفاتهم وإرسال مشاريع بحوثهم، ثم إلى التراجع المفاجئ عن تلك اللوائح، بذريعة الأخطاء البشرية وغياب منصة رقمية للتسجيل. ولم تكتف الوزارة بهذا التبرير، بل أقدمت في الثاني والعشرين من أكتوبر  من العام الماضي على إلغاء المحضر الرسمي الصادر عن اللجنة الوطنية للتوجيه والمنح بدعوى توطين البحوث، في خطوة زعزعت ثقة الطلبة في مصداقية المؤسسة الوصية، إذ لم يكن القرار منطقياً: فالوزارة لم تكن مطالبة بإنفاق أوقية واحدة ، فلماذا حرمان الطلبة من حقهم؟

وإذا كان الهدف هو “توطين البحوث”، فأين المناهج والخطط؟ أين الأساتذة المؤهلون والمشرفون الأكفاء؟ بل أين المؤسسات القادرة على استيعاب الباحثين؟

لقد كان من الأجدر أن يُعتبر ابتعاث 209 طالباً إلى الخارج خطوة داعمة للتوطين، عبر استجلاب الخبرة وتبادل المعرفة، لا أن يُتخذ كذريعة لإغلاق الأبواب في وجوههم.

الطلاب يدخلون في اعتصام مفتوح

قرار الإلغاء فُهِم لدى الطلبة على أنّه إجهاض متعمّد لأحلامهم، خصوصًا أنّ هذه المقاعد لا تكلّف الدولة أوقية واحدة. ومن ثمّ دخلوا في اعتصامات مفتوحة داخل مباني مديرية التوجيه والمنح، ونظّموا سلسلة وقفات احتجاجية متواصلة أكثر من شهر.

انتهى الاعتصام بتوقيع محضر اتفاق بين ممثلي الطلبة والوزارة يوم 15 نوفمبر 2024، ينص على استيعاب الـ209 جميعًا، عبر إدماج نسبة منهم في المدارس القائمة، وتوزيع البقية على مدارس جديدة كان يفترض إطلاقها في يناير من العام الجاري.

الاتفاق بدا حينها خطوة نحو التهدئة، لكنه حمل في طياته بذور أزمة جديدة، إذ ربط مستقبل الطلبة بمؤسسات لم تكن موجودة على أرض الواقع.

تعميم بلا مؤسسة

في فبراير 2025 أصدر الوزير تعميمًا وُجه إلى بعض مؤسسات التعليم العالي، يقضي بتسجيل الطلبة، غير أن الواقع سرعان ما كشف زيف الصورة: المدارس الجديدة التي أُعلن عنها لم تكن موجودة في الحقيقة، إذ لم تصدر الوزارة الإطار القانوني المنظم لمدارس الدكتوراه الوطنية، ولم تعين طاقما لها، ما جعل التعميم  أقرب إلى نص شكلي منه إلى قرار قابل للتنفيذ.

ورغم أن الوزارة سارعت لاحقًا إلى إصدار الإطار القانوني المنظم للمدارس، فإن هذا الإجراء ظل شكليًا في غياب المقومات الأساسية لأي مؤسسة أكاديمية حقيقية. فأين هو الطاقم الإداري الذي يضمن حسن التسيير؟ وأين هم الأساتذة المؤهلون القادرون على الإشراف على بحوث الدكتوراه وفق المعايير العلمية الرصينة؟

إن إصدار نصوص قانونية من دون توفير الكفاءات البشرية والبنية التحتية اللازمة لا يُعد تأسيسًا لمدارس عليا، بل مجرد إعلان ورقي لا يغيّر من واقع الأزمة شيئًا.

أزمة رؤية قبل أن تكون أزمة طلبة

القضية تجاوزت حدود ملف أكاديمي إلى أزمة بنيوية في التعليم العالي الموريتاني. وزارة تُكثر من الإعلانات والقرارات لكنها تتعثر عند التنفيذ، وصراع تيارات يزج بالطلبة في معركة ليست معركتهم. وبين الوهم والواقع، يظل البحث العلمي معلقًا على إصلاحات مؤجلة، فيما الزمن يمضي على حساب أجيال تطمح إلى مستقبل أفضل.

حصيلة عام من الوعود

اليوم وبعد مرور عام، لم يُسجل أي طالب في مدرسة دكتوراه وطنية “جديدة”، ولم تُفعّل بنود الاتفاق، ولم تتحقق الوعود التي أُطلقت على عجل، والنتيجة: طلاب وجدوا أنفسهم عالقين بين نصوص إدارية لا تُنفذ، وأفق أكاديمي يُؤجل باستمرار. فضاعت سنة كاملة من أعمارهم العلمية، وانكشفت فجوة عميقة بين طموحات الدولة المعلنة وقدرتها على الإنجاز.

ختاما

لقد كشفت هذه الأزمة أن إصدار الإعلانات والتعاميم لا يُنشئ مؤسسات، وأن النصوص القانونية بلا كفاءات بشرية وبنية تحتية ستبقى حبرا على ورق، فكيف يمكن لمشروع وطني للبحث العلمي أن يقوم على هذا الأساس الهش؟ وكيف يُرجى من وزارة تتناقض قراراتها في أسابيع معدودة أن تبني استراتيجية تمتد لعقود؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى