الرأي

السلامة الطرقية في موريتانيا: مسؤولية مشتركة بين المواطن والدولة

محمد محمود الشيباني

تشكل الحوادث الطرقية في بلادنا تحدياً متزايداً أمام المجتمع والدولة على حد سواء، إذ لم يعد الأمر مقتصراً على الخسائر المادية فحسب بل أصبح يرتبط بشكل مباشر بأرواح البشر وسلامتهم. ورغم تكرار هذه الحوادث بشكل لافت، فإن أسبابها غالباً ما تعود إلى عوامل يمكن التحكم فيها والحد منها، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام النقاش حول طبيعة هذه السلوكيات، ومدى صرامة نظام رخصة السياقة، إضافة إلى دور المواطن والدولة في تعزيز ثقافة السلامة الطرقية.

حوادث كان بالإمكان تجنبها

إذا نظرنا بتمعن إلى طبيعة الحوادث الطرقية التي حصلت هذه السنة، نجد أن أغلبها لم يكن ليقع لو أن السائقين التزموا بأبسط قواعد السلامة والتعليمات الضرورية التي من المفترض أن يعرفها الجميع. فالأسباب المباشرة لمعظم هذه الحوادث متكررة إلى درجة الملل: السرعة المفرطة، الاستهتار، الانشغال بالهاتف أثناء القيادة، بل أحياناً القيام بسلوكيات عبثية كتحضير الشاي داخل السيارة أثناء القيادة. لا يتعلق الأمر إذن بمفاجآت أو أعطال تقنية لا يمكن تجنبها، بل بسلوكيات بشرية كان بالإمكان السيطرة عليها لو وجدت الرقابة الصارمة من جهة، والوعي الفردي من جهة أخرى.

إن السرعة المفرطة وحدها كفيلة بأن تضعنا أمام كارثة يومية، إذ أن طريق الأمل تحوّل إلى ما يشبه مسرحا للموت، حيث تسجل يومياً حوادث دامية نتيجة سباق غير مفهوم بين سائقي السيارات الكبيرة والصغيرة. والمفارقة أن السائق نفسه الذي يقود بسرعة جنونية على الطريق السريع، هو ذاته الذي يشكو من وعورة الطريق أو رداءة البنية التحتية، وكأن إلقاء اللوم على الدولة وحده يعفيه من تحمل المسؤولية الشخصية.

الأدهى من ذلك أن بعض الحوادث تكون نتيجة ممارسات يصعب تصديقها: استخدام الهاتف أثناء القيادة لم يعد استثناءً، بل صار قاعدة يومية، حتى أن بعض السائقين يفضلون الرد على مكالمة أو متابعة رسالة على “واتساب” على أن يحافظوا على سلامة أرواحهم وأرواح الركاب. ومن صور العبث كذلك تحضير الشاي أثناء القيادة، وهو سلوك غريب لا يوجد إلا في موريتانيا، حيث يجلس شخص جنب السائق أو خلفه وفي يده إناء الشاي، والنار مشتعلة، والسيارة تسير بسرعة تتجاوز أحياناً المئة كيلومتر في الساعة! كيف يمكن لعقل أن يستوعب أن قيادة السيارة ـ وهي في ذاتها مسؤولية ضخمة ـ تتحول إلى نشاط ثانوي بينما يحتل الشاي المرتبة الأولى؟
إن الحوادث التي تزهق الأرواح وتخلف العشرات من الجرحى ليست مجرد “قدر”، كما يحلو للبعض أن يصفها، بل هي نتيجة مباشرة لفوضى السلوك وغياب الوعي. فلو أن السائق التزم بالسرعة القانونية، لو أنه أطفأ هاتفه، لو أنه أجل تحضير الشاي إلى حين التوقف، لما فقدت آلاف الأسر أبناءها وأعزاءها. وبذلك يمكن القول بكل وضوح بأن معظم الحوادث في موريتانيا يمكن تجنبها، لأنها ببساطة حوادث ناتجة عن أخطاء كان يمكن تجنبها.

لكن المشكلة تتجاوز الأفراد إلى البنية الذهنية للمجتمع فكثير من الموريتانيين ينظرون إلى الحوادث كأمر عابر، وكأنها جزء من الحياة الطبيعية، في حين أن المجتمعات المتقدمة تعتبر كل حادث خطأً يجب تفكيكه وتحليله للبحث عن وسيلة تمنع تكراره. في موريتانيا، تمر الحوادث مرور الكرام: تنقل صور الدماء والجثث عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ثم يُطوى الملف في ساعات، دون نقاش جدي حول الأسباب والمسؤوليات والإجراءات. هذه اللامبالاة تجعل من الطريق فضاءً للفوضى لا رادع فيها إلا الحظ.

إن الطرق الموريتانية، ليست خطيرة بذاتها فقط، بل بخطورة العقليات التي تسلكها. وإذا كان صحيحاً أن وضع البنية التحتية يساهم في مضاعفة المخاطر، فإن السلوك البشري يبقى العامل الحاسم الذي يجعل الحادث حتميا أو قابلاً للتجنب.

رخصة سياقة بلا معايير

حين نرى هذا العدد الهائل من الحوادث التي أودت بحياة الآلاف وشلت المئات، يتبادر سؤال جوهري إلى الذهن: كيف يحصل الموريتانيون على رخصة السياقة؟ وكيف يتعلمون القيادة أصلاً؟

الجواب المؤلم هو أن الحصول على رخصة السياقة، في كثير من الحالات، لا يمر بالمسار الطبيعي الذي يُفترض أن يتضمن تدريباً جدياً، واختباراً صارماً، ومتابعة دقيقة. بل إن الرخصة، يمكن شرائها، ولا علاقة لها بالتدريب أو الكفاءة. وفي بعض الحالات، يكفي أن يعرف المواطن شخصاً ما في الإدارة حتى يجد نفسه حاملاً لرخصة تخوّله قيادة السيارة وسط العاصمة أو على طريق الأمل.
في ظروف طبيعية، يفترض أن يمر المتقدم لتعلم القيادة بمدرسة مختصة، يتدرب على قواعد السير، يتعلم كيفية التعامل مع المخاطر، ويخضع لاختبارات مكتوبة وعملية قبل أن يُسمح له بالجلوس خلف المقود. لكن في موريتانيا، كثير من المدارس نفسها مجرد دكاكين هدفها الأول الربح المالي لا غير. التدريب يكون صورياً في أحسن الأحوال، ولا يتجاوز دروساً سريعة يتلقاها المترشح على عجل. وفي كثير من الأحيان، يمكن الحصول على الرخصة بعد دفع المبلغ المطلوب من دون امتحان أو تدريب.
هذه الفوضى في منح الرخص هي التي تفسر كيف نجد على الطرقات سائقين يفتقرون إلى أبسط القواعد: لا يعرفون معنى إشارات المرور، لا يلتفتون لقواعد الأولوية، لا يحترمون المسافات الآمنة. والأدهى من ذلك أن البعض قدم من اليادية ليحصل على الرخصة بطرق ملتوية، وكأن قيادة سيارة في شارع مكتظ تشبه قيادة جمل في الصحراء.

إن الدولة تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية هنا، لأنها لم تجعل من رخصة السياقة وثيقة حقيقية تعكس كفاءة السائق. في دول أخرى، سحب الرخصة عقوبة شديدة يخافها الجميع، لأنها تعني شلّ الحياة اليومية للسائق. أما في موريتانيا، فالرخصة نفسها لا تعني الكثير، لأنها في الأصل لم تُمنح وفق معايير دقيقة.
ولذلك فإن أي إصلاح جاد للسلامة الطرقية يجب أن يبدأ من إصلاح نظام رخص السياقة: إخضاعه للشفافية، جعل الاختبارات صارمة وحقيقية، مراقبة مدارس تعليم ألسياقة، وتجريم أي تلاعب إداري. من غير ذلك، سنظل نرى سائقين يقودون سيارات ضخمة في شوارع مزدحمة وهم لا يفقهون من قواعد السير إلا القليل.

التخلف بين المواطن والدولة

على مستوى المواطن، تبرز مشكلة أساسية تكمن في التساؤلات التالية: هل يمكن للموريتاني أن يتماشى فعليا مع حياة المدينة ومتطلباتها؟ أم أن التخلف الذهني والسلوكي يجعله لا يقتنع بجدية المخاطر إلا إذا وقع الحادث أمام عينيه؟

الواقع أن غالبية السائقين لا يولون اهتماماً حقيقياً للتحذيرات المتكررة حول السرعة المفرطة. إنهم يسمعون يومياً عبر الإعلام عن خطورة التهور، لكنهم لا يلتزمون إلا بعد أن يروا الحادث وقد وقع، والجثث وقد سقطت. هذا السلوك يعكس عقلية بدوية في التعامل مع السيارة، عقلية من يركب جملاً في البادية لا تهمه السرعة ولا طبيعة الطريق. لكن السيارة في المدينة ليست جملاً في الصحراء، بل أداة تتطلب وعياً، وتقاسماً للطريق، واحتراماً لإشارات المرور، وتوقفاً حين يقطع المارة الطريق.

هنا يظهر البون الشاسع بين ما تفرضه حياة المدينة وما يعيشه المواطن الموريتاني في واقعه اليومي. فالسائق الذي يرفض أن يتوقف ليمر تلميذ أو عجوز طاعن في السن هو ذاته الذي يطالب الدولة ببناء طرق حديثة. كأنما البنية التحتية وحدها كافية لتعويض غياب الثقافة المدنية.

أما على مستوى الدولة، فالمشكلة أعمق إذ أن بعض رجال الأمن المكلفون بالطرق يركزون غالباً على الجانب الجبائي: المخالفات التي تعزز خزينة الدولة، والغرامات المالية. لكن جوهر السلامة الطرقية ليس في هذه الأوراق، بل في ضمان أن السيارة صالحة للسير، وأن السائق ملتزم بالقواعد، وأن الخطوط الحمراء واضحة للجميع. لم نسمع يوماً في موريتانيا أن السرعة الفائقة أو التجاوز الخطير في وضعيات معينة يؤدي مباشرة إلى سحب الرخصة. العقوبة تظل مالية بالأساس، وكأن أرواح الناس يمكن تعويضها بمبلغ مالي.

إن غياب مفهوم “الخطوط الحمراء” يجعل الطريق بلا ضوابط حقيقية ففي دول أخرى، مجرد ضبط السائق وهو يقود بسرعة تفوق الحد المسموح به قد يحرمه من الرخصة لأشهر. أما هنا، فالسرعة ليست جريمة، بل ممارسة يومية عادية. هذا الفارق يعكس ليس فقط خللاً في القوانين، بل تخلفاً في التصور العام لدى الدولة والمجتمع.
وعليه، فإن مأساة الحوادث الطرقية في موريتانيا لا تكمن فقط في ضعف البنية التحتية، ولا في سلوك السائقين فقط، بل في غياب ثقافة مدنية شاملة: المواطن مستهتر، والدولة تركز على المال بدل الأرواح. والنتيجة هي نزيف يومي للضحايا، بلا مساءلة حقيقية، وبلا إرادة واضحة لإعلان أن حياة الناس أهم من كل الحسابات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى