
في الآونة الأخيرة، اهتز الشارع الموريتاني على وقع جرائم بشعة ارتُكبت بأيدٍ صغيرة ففي دار النعيم، أُغتصبت فتاة أمام والدها المقعد من طرف مراهقين لم يتجاوزوا 16 سنة. وفي حادثة أخرى، منذ ثلاثة أيام، وصل شاب إلى المستشفى العسكري في نواكشوط جثة هامدة، قُتل في ظروف غامضة ، وهو أيضًا لم يتجاوز 16 عامًا.
هذان الحدثان ليسا سوى قمة جبل الجليد وما خفي أعظم. فمعظم الجرائم التي تهز الشارع الموريتاني اليوم، بدءًا من العنف المسلح في الشوارع، إلى السطو، والتحرش، والمخدرات، أبطالها مراهقون. وهذا يضعنا أمام سؤال كبير: ماذا حدث لهذا الجيل؟ وما الذي جعل من مراهقينا، وهم في عمر الزهور، مشاريعَ قتلة ومنحرفين
الجواب، ببساطة شديدة: لقد فشلنا في تربيتهم.
المدرسة كمصنع للفراغ القيمي
أول مظاهر هذا الفشل يتجلى في المدرسة. المؤسسات التعليمية التي يُفترض أن تكون بيئة للتهذيب قبل التعليم، تحولت إلى هياكل باردة، خالية من المضمون التربوي، ومفرغة من الدور القيمي.
خذ مثلاً مادة “التربية المدنية”، والتي يوحي اسمها بالقيم والحقوق والمسؤوليات، لكنها في الواقع مجرد دروس نظرية عن الإدارات والمصالح الحكومية، بعيدة كل البعد عن السلوك المدني أو التعايش أو حتى احترام القانون. أما “التربية الإسلامية”، فتعاني من التشتت وغياب المنهجية. بدل أن تكون رحلة عملية في سلوك المسلم اليومي، تغرق في العموميات دون هدف واضح أو تطبيق واقعي. هل سمعتم عن مقررٍ يبدأ بالوضوء في الفصل الأول وينتهي بالتيمم، ثم ينتقل في السنة الثانية إلى الصلاة ثم الزكاة؟ هذا هو ما نحتاجه؛ تربية منظمة، تطبيقية، تمس واقع الطفل وتحاكي احتياجاته النفسية والاجتماعية.
أما “مادة الأخلاق”، فهي غائبة عمليًا بحيث لا يوجد تحذير واضح من العنف، ولا توجد أمثلة تطبيقية عن رفض الفواحش، ولا بناء للوازع الأخلاقي أو تعزيز روح المسؤولية وبالتالي تكون المدرسة قد فقدت دورها كدرع يحمي الطفل من الانزلاق.
المدرس.. القدوة الغائبة
ولعلّ من أكبر أسباب هذا الانهيار هو ضعف تكوين المدرسين، وربما أسوأ من ذلك، فساد عملية اختيارهم. الكثير منهم لا يصلون إلى المهنة عن كفاءة، بل عن طريق المحسوبية والوساطة. وحتى من يدخلون بمسابقة، يجدون أنفسهم في تكوين سريع وسطحي لا يكفي لإعدادهم لمهمة بناء الأجيال.
المعلم، الذي يُفترض أن يكون قدوة، أصبح في كثير من الأحيان عائقًا أمام التعلُّم. كيف لتلميذ أن يحب مادة العلوم الطبيعية إذا كان أستاذه لا يعرف كيف يُشغّل مجهرًا؟ وكيف سيهتم الطالب بالكيمياء إذا كانت المعادلات تكتب على السبورة كما تُكتب الطلاسم، دون أي تجربة مخبرية، ودون أن يرى في حياته تفاعلًا كيميائيًا حيًا؟ بل كيف يُغرس حب الدين في قلوب الأطفال، إذا كان أستاذ التربية الإسلامية عبوسا، غليظًا، لا علاقة له بالرحمة والسلوك النبوي؟
ومن المثير للسخرية أن هذا الجسم التعليمي، لم نشهد له موقفًا جادًا يطالب بإصلاح جذري، أو بتجهيزات علمية حقيقية كالتي تستعمل في أبسط المدارس في دول الجوار. لم نسمع احتجاجًا من المدرسين على غياب المختبرات، أو المطالبة بأجهزة الفيزياء والكيمياء ، أو حتى برحلات ترفيهية للتلاميذ. الصوت الوحيد الذي نسمعه، هو صوت المطالبة بالرواتب، دون أن تصاحبه مسؤولية تجاه ما يُزرع في عقول أبنائنا.
الجيل الجديد.. فراغ وتيه
في هذا الواقع، يولد الطفل الموريتاني ويكبر في بيئة بلا قدوة، وبلا رؤية، وبلا مرافقة. وعندما ينفتح على الإنترنت، يجد عالماً مختلفاً: عنف، فواحش، أفلام جريمة، مؤثرين يُجملون المال الحرام ويُشجعون على التمرد والانحراف، كل ذلك دون أن يكون لديه رصيد أخلاقي أو مرجعية تربيه على التمييز بين الخير والشر.
هكذا، يصبح المراهق لدينا وعاء فارغًا، كل ما يصادفه في طريقه قد يُشكل وعيه: مقطع ساخر قد يُشجعه على تعاطي الحشيش، فيديو عن “الحياة في الشارع” قد يُلهمه حمل السكين، لعبة إلكترونية قد تدفعه إلى اختبار “الحياة الواقعية” بجريمة حقيقية.