من الشك إلى التصوف.. رحلة أبو حامد كما يرويها في “المنقذ من الضلال”
آخر تحديث: 18/06/2025 - 9:43 م
3 دقائق
يعد كتاب المنقذ من الضلال للإمام أبي حامد الغزالي بمثابة “مذكرة” كتبها عالم مسلم عن حياته ومطباتها المختلفة.
يحكي كتاب المنقذ من الضلال رحلة الغزالي مع الشك ودراسة الفرق المنتشره في زمنه كالفلاسفة والمتكلمين والباطنيين والمتصوفة ,ووصوله للحق.
لم تكن رحلة أبو حامد مفروشة بالورود ، فالطفل اليتيم، والفقير البائس، والتلميذ النابه، والشيخ المهاب ،كانت كل مراحل حياته مطبات وعرة.
والكتاب وإن كان يعتبر “مذكرات” بالمعنى المعاصر فإنه ينحو منحى آخر فالإمام لايتكلم عن طفولته ولا محيطه الاجتماعي وإنما يتحدث عن مسيرته الفكرية فقط.
فقد سلم من مقدمات “النشأة ومراتع الصبا التي عادة ماي بفتتح بها المفكرون والسياسيون مذكراتهم لتعريف القارئ بهم.
ولعل ذلك يرجع إلى زهد الإمام الغزالي في الحديث عن نفسه، وإدراكه لأهمية البعد القيمي والزهد في البعد المادي.
رحلة الشك
من الشك في المحسوسات إلى الشك في المعقولات، هكذا بدأت رحلة الغزالي على ضفاف الشك، رحلة خاضها رغم تلاطم الأمواج العاتية التي كان من الممكن أن تلتهمه في أي قت.
بدأ بالتشكيك في المحسوسات التي رأى أنه لايمكن التسليم بها حيث يقول:
“فانتهى بي طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا وأخذت تتسع للشك فيها وتقول:
من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة البصر وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك وتحكم بنفي الحركة ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك”.
فخلص إلى أنه لايمكن الثقة بالمحسوسات “التي يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ويكذبه حاكم العقل”
وهربا من الأمواج التي تلاحقه رأى أنه لايمكن الثقة إلا في المعقولات لكن أمواج المحسوسات الهادرة كانت تناديه:
” لماذا تأمن العقل ألم تكن تؤمن بي فجاء حاكم العقل فكذبني من قال لك أنه ليس وراء حاكم العقل حاكم آخر ثم ألست تنام فتتخيل أشياء أنت موقن بها وعندما تستيقظ تدرك أن هذه التخيلات ليس لها أصل فمن قال لك أنك في هذه الحياة لست في حلم كبير”.
دام هذا الشك قرابة شهرين كان فيهما الغزالي على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال حسب تعبيره.
بعد شهرين من خوض غمار ضفاف الشك المتلاطمة أمواجه رجعت الضروريات العقلية موثوقا بها كما قال الغزالي:
“لم يكن ذلك بتنظيم دليل وترتيب كلام وإنما بنور قذفه الله في قبلي”
أصناف الطالبين
بعد أن زال الشك ورجت الضروريات العقلية موثوقا بها انحصر طالبو الحق عند إلى أربعة فرق وهم :
_المتكلمون وهم يزعمون أنهم أهل الرأي والنظر
_الباطنية وهم الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم
_الفلاسفة وهم الذين يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان
_المتصوفون وهم يدعون أنهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة
علم الكلام
يرى أبو حامد أن علم الكلام علم واف بمقصوده كعلم لكنه غير واف بمقصود الغزالي, إذ المقصود منه حفظ عقيدة أهل السنة والحفاظ عليها من تشويش أهل البدع وهذا قد أنزل الله في كتابه عقيدة هي الحق لكن الشيطان ألقى في قلوب المبتدعة وساوس فطفقوا يلهجون بها فصار لزاما على أهل الحق أن يذبوا عنه فأنشأ الله تعالى طائفة المتكلمين.
لكن هذه الطائفة أخذت المقدمات من خصومها واضطرهم إلى تسليمها إما التقليد أو إجماع الأمة وانشغلوا باستخراج تناقضاة الخصوم وهذا قليل النفع في حق من لايسلم سوى الضروريات أصلا.
فخلص إلى أن علم الكلام ليس شافيا لدائه لكنه لاينكر حصول الشفاء به لطائفة فالأدوية تختلف باختلاف الداء فالدواء الذي ينتفع به مريض قد يضر آخر.
الفلسفة
كان اهتمامه بالفلسفة عندما كان في بغداد فقرأ للفلاسفة وهو جينئذ أستاذ يدرس حوالي 300 نفر،فكان يسرق من وقته مايطالع فيه كتبهم حتى أكملها في سنتين ولم يزل يواظب على التفكير فيها قرابة سنة حتى اطلع على مافيها من غواية وتلبيس فقسمهم إلى ثلاثة أقسام:
الدهريون:
وهم الأوائل الذين أنكرو وجود الخالق وأن العالم موجود بنفسه وهؤلاء في نظره هم الزنادقة.
الطبيعيون:
وهم الذين يبحثون في عالم الطبيعة وعجائب الحيوان والنبات فآمنوا بوجود الخالق لكنهم ذهبوا إلى أن النفس لاتعود فأنكرو البعث والجنة والنار فهؤلاء أيضا زنادقة لأنهم وإن آمنوا بالله فقد أنكروا البعث فأصل الإيمان الإيمان بالله واليوم الآخر.
الإلهيون:
وهم المتأخرون من الفلاسفة مثل سقراط وأفلاطون وأريسطو وهم الذين ردو على الدهريين والطبيعيين. وقد رد أرسطو على أفلاطون وسقراط لكنه بحسب الغزالي استبقى الكثير من كفرهم مما يستوجب تكفيرهم.
وقد قسم علوم الفلاسفة إلى ستة علوم:
رياضية ومنطقية وإلهية وطبيعية وسياسية وخلقية.
الباطنية
لم يقصد الغزالي من كلامه عن الباطنية بيان فساد مذهبهم فقد ذكر ذلك في كتاب المستظهري وفي كتاب حجة الحق وإنما قصد أن هؤلاء ليس معهم ماسماه ” الشفاء المنجي من ظلمات الآراء”
ثم يضيف أنه بعد تجريب باطن هؤلاء وظاهرهم خلص إلى أنهم يستدرجون العوام وضعفاء العقول ببيان حاجتهم إلى المعلم.
التصوف
بدأ الغزالي في دراسته للتصوف بمطالعة كتبهم وذلك لأن العلم أيسر عنده ، فقرأ “قوت القلوب” لأبي طالب المكي وغيره من مشائخ التصوف حتى حصل على مايمكنه الحصول عليه من طريقهم بالتعلم والسماع فظهر له أن أخص خواصهم مالايمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق.
فبقي له بعد أن أكمل كتبهم أن يصل إلى أحوالهم بالذوق ،فغادر بغداد واتجه إلى دمشق واعتكف في المسجد متخفيا ، “فعلم يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله وأن سيرهم أحسن السير وطريقهم أصوب الطرق”
وخلاصة أن مايميز كتاب المنقذ من الضلال رغم تواضع حجمه المادي إلا أنه ثقيل بحجمه المعنوي إذ يحكي عصارة تجارب أعظم العقول الإسلامية في عصره ،خليط من الفقه والتاريخ والفلسفة والتصوف وشتى العلوم ،له إسهامات بارزة في الساحة الإسلامية في شتى الفنون.