في 18 أغسطس/ آب 2020 دخلت مالي مرحلة جديدة من دوامة عدم الاستقرار، وذلك بعد الإنقلاب على الرئيس المنتخب إبراهيم أبو بكر كيتا بقيادة الكولونيل أسيمي غويتا.الذي سيكون الرجل الأبرز في باماكو.
تعهد رفاق كويتا الذي كان يرأس المجلس العسكري حينها ونائب الرئيس الانتقالي باه نداو بتسليم السلطة للمدنيين بعد 18 شهرا، أي في أفق 2022.
لكن بعض المراقبين يرى أن تلك التعهدات كانت تحت ضغط المجتمع الدولي ويرنوا من خلالها قائد الإنقلابيين إلى تمهيد الطريق لأطماعه السلطوية.
تسارعت الأحداث في أقل من عام حيث تم انقلاب مايو 2021 ضد الرئيس الانتقالي ووزيره الأول اللذين اتهمها قائد الإنقلاب بالقيام بتشكيل حكومة جديدة دون التشاورمعه ، هذا الأمر اعتبره كويتا انتهاكا للميثاق الانتقالي.
لتدخل البلاد بعد دلك في صراعات إقليمية ودولية يرى الدكتور الحاج سعيدات في تصريح لموقع تحديث أنها نتيجة للاستقطاب السياسي والإعلامي الذي يرجع بالأساس لصراع القوى الكبرى والفرعية ،على مفاتيح القارة الأفريقية المتمثل في دول الفضاء المغاربي ..بالإضافة لدول الساحل الأفريقي.
بؤرة الصراع في مالي
يعد إقلبيم أزواد بؤرة الصراع المسلح في مالي حيث تنشط فيه عديد الجماعات المسلحة أبرزها الحركات الانفصالية والجهادية.
ويعود تاريخ التمرد في إقليم ازواد إلى عام 1963 ، فلم تكد دولة مالي الحديثة تنهي عامها الثالث بعد الاستقلال حتى أشعل زيد أغ الطاهر شرارة ثور مسلحة تهدف إلى استقلال الإقليم..
قوبلت ثورة أغ الطاهر بقمع شديد ،ونفذت السلطات المالية عمليات إعدام جماعي ضد قبائل الطوارق والعرب كما قامت بإحراق تجمعات سكنية وقرى تقطنها تلك القبائل..
وبهذا القمع الشديد تنجح باماكو في إخماد ثورة الإقليم، لكن الجزائر نجحت في اعتقال أغ الطاهر ورفيقه إلياس أيوب نهاية 1963 وسلمتهما لمالي ليقبعا في السجن قبل إطلاق سراحهما بعد انقلاب 1978.
ورغم أن الإقليم شهد هدوء نسبيا بعد تلك الأحدث إلا أن القبائل العربية والطارقية اتفقتت على إشعال ثورة أخرى عام 1989 ،قبل أن تنشق القبائل العربية وتؤسس حركة خاصة بها تحت اسم “الحركة العربية الإسلامية لتحرير أزواد”، وقد انتهت الحرب بتوقيع اتفاقية سلام عام 1996 في حفل سلم خلاله المتمردون أسلحتهم وتم إشعالها فيما سمي “شعلة السلام”.
وفي عام 2011 عاد الآلاف من المقاتلين الطوارق في صفوف القذافي إلى مالي بعد انتصار الثورة الليبية ، وشكلوا النواة الأولى للحركة الوطنية لتحرير أزواد لتسيطر على الإقليم سنة 2012.
مثلت سيطرة المتمردين على الإقليم أرضية خصبة لتنامي الحركات الجهادية نتيجة لغياب التعليم والهشاشة الاقتصادية في تلك المناطق.
على مدى تلك السنوات فشلت جميع الحكومات المالية بالتحالف مع فرنسا في القضاء على الحركات المسلحة في الشمال.
لكن المجلس العسكري يعزي كل الفشل لباريس التي دخل معها في صراع منذ وصوله للسلطة.
الأمر الذي تنفيه باريس التي تعتبر نفسها قد أنقذت مالي من مد الحركات المسلحة عام 2012 وكلفها ذلك مليارات اليورو وأكثر من 50 قتيلا.
الخبير في الشؤون الأفريقية محفوظ ولد السالك يرجع الفشل في القضاء على تلك الجماعات المسلحة إلى أنها تركز في اكتتابها على المناطق الهشة والفقيرة، وتستهدف التعليم كذلك، وما لم تكن هناك تنمية اقتصادية قوية، وتعليم قوي، يترافقان مع البعد العسكري المتعلق بتقوية جاهزية الجيش عتادا وتدريبا، فإن المقاربة تبقى ناقصة والنتائج تظل محدودة.
الأزمة مع فرنسا
تصاعدت وتيرة الخلافات بين باريس وباماكو بعد الانقلاب الثاني على الرئيس الانتقالي باه نداو.
وجاء قرار السلطات العسكرية بباماكو في الثاني من مايو أيار 2022 ،القاضي بإلغاء الاتفاقيات التي تحدّد إطارا قانونيا لوجود قوتي “برخان” الفرنسية و”تاكوبا” الأوروبية، وكذلك اتفاقية التعاون الدفاعي التي أبرمتها مع فرنسا في 2014. منهيا للوجود العسكري لباريس في مالي.
لكن فرنسا تعتبر قرار السلطات المالية “غير مبرر ويطعن رسميًا في أي انتهاك للإطار القانوني الثنائي”.
وفي 15 أغسطس/آب 2022 خرج آخر جندي فرنسي بلاد الذهب بعد عقود من كانت فيها باريس هي المتحكم في في شؤون الماليين عسكريا وسياسيا.
الأزمة مع الجزائر
لم تخفي الجزائر امتعاضها من وجود مرتزقة فاغنر ففي مقابلة مع لوفيغارو الفرنسية اعتبر الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون أن الأموال التي تدفعها بامكو للمرتزقة، ستفيد أكثر إذا استثمرت في التنمية مشيرا إلى أن الحل هناك اقتصادي أكثر مما هو أمني .
لكن بعض المراقبين يرجع الأزمة بين البلدين، إلى استضافة الجزائر – بوصفها راعية للاتفاق الذي حصل بين باماكو والجماعات المسلحة 2015 – لقادة الفصائل الموقعة على الصلح، بالإضافة لبعض الزعماء السياسيين والدينيين ،الأمر الذي أغضب المجلس العسكري في مالي من خلال اتهامه للجزائر بالقيام بأعمال عدائية.
على إثر تلك التصريحات قام البلدان باستدعاء سفيريهما للتشاور في ديسمبر /كانون الأول 2023.
إلا أن خروج المجلس العسكري من اتفاق السلام والمصالحة الذي كانت الحزائر راعية لبنوده مثل فصلا جديدا من فصول التصعيد بين البلدين.
وفي 31 من مارس/آذار الماضي أعلنت الجزائر إسقاط طائرة مسيرة مالية لتدخل العلاقة بين البلدين فصلا جديدا من التوتر.
وفي تصريح لموقع تحديث قال الدكتو الحاج سعيدات إن الجزائرفرضت عليها أزمات لا يد لها فيها بقرب حدودها ،وشكّلت التدخلات تحديا للجزائر يضاف الى صعوباتها الاقتصادية والسياسية.
ويضيف أن مالي “بنظامها المغامر” لن تستطيع اللعب بأسلحة الحرب المادية لكنها ستستعيض عنها بفرقعات اعلامية تهويلية لن يكتب لها سوى التجاهل الدولي حين يجد الجد ،حسب تعبيره.
وفي السابع من مايو/ آيار الجاري أعلنت السلطات المالية تعليق نشاط الأحزاب السياسية من خلال مرسوم وقعه رئيس المجلس العسكري الجنرال آسمي غويتا ويثه التلفزيون الرسمي في بيان.
وجاء في البيان أنه ” يتم تعليق أنشطة الأحزاب السياسية لأسباب تتعلّق بالنظام العام حتى إشعار آخر.”
إطالة أمد البقاء في السلطة
ويعتقد الخبير في الشؤون الأفريقية محفوظ ولد السالك أن الهدف من كل ذلك هو محاولة إطالة أمد البقاء في السلطة، وتسويق أن البلاد تواجه تحديات كبيرة داخلية وخارجية متعددة الأبعاد، تحتاج إلى وجود المجلس العسكري من أجل مواجهتها.
ويضيف ولد السالك لموقع تحديث أن البلاد ما إن تخرج من أزمة مع دولة حتى تدخل في أزمة جديدة مع بلد آخر، أو منظمة.
وأحيانا يأخذ ذلك بعدا داخليا كالخصومة حاليا مع الأحزاب السياسية والمنظمات، وتضييق الخناق على المعارضة وحرية الرأي والتعبير.
ويوضح أن محاربة الجماعات المسلحة تحتاج مقاربة أشمل، لا تقوم على البعد العسكري فحسب، وإنما تشمل كذلك أبعاد الاقتصاد والتنمية والتعليم… وبالتالي فإن السبب في الفشل في القضاء على الخطر المسلح خلال عقد من الحضور العسكري الفرنسي في مالي وفي المنطقة بشكل عام، هو حصر المقاربة فيما هو عسكري فقط، وهذا إن استمر الآن في ظل الوجود العسكري الروسي فإن النتيجة ستكون هي ذاتها.