
رغم غياب إحصاء رسمي إلا أن التقديرات تشير إلى أن موريتانيا تمتلك أكثر من 15 ألف سيارة عمومية، تنفق عليها سنويا أموالا طائلة ما بين الوقود والصيانة والتأمين.
وتعود الموريتانيون على مشاهدة هذا الأسطول الضخم يستعمل استعمالا مفرطا خارج أوقات العمل والدوام ومجال عمله القانوني. و في ليالي العطل الأسبوعية لأغراض شخصية بحتة.
ذلك أن آلاف الموظفين المستفيدين من هذه الامتيازات لا يحترمون القوانين المنظمة لاستخدامها.
وفي الآونة الأخيرة تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي صورا لمسؤولين حكوميين ومنتخبين محليين يمتطون سيارات فخمة بأسعار باهظة الثمن يصل سعر بعضها 42 مليون.
واستنكر الناشطون على هؤلاء الرفاهية المبالغ فيها على حساب أموال الشعب في دولة فقيرة ينخرها الفقر وتنتشر فيها البطالة.
وفي هذا السياق أصدر الوزير الأول المختار ولد اجاي مساء أمس الجمعة تعميما، يأمر بترشيد اقتناء واستخدام السيارات الخدمية العمومية، وذلك من خلال تجنب اقتناء سيارات غالية الثمن، واحترام إجراءات إبرام الصفقات العمومية في عملية الشراء، و العمل على ترشيد استخدامها.
لكن في الوقت التي ثمن فيه الكثيرون هذا التعميم، شكك البعض الآخر في مدى جديته وقدرته على الصمود، خصوصا في بلد يجتاحه الفساد و يفتقر للرقابة الصارمة في الإدارة، وفق تقارير عديد لمفتشية الدولة.
حصيلة صادمة
وأعاد هذا التعميم إلى الأذهان تحقيقات عدة كانت ضد الفساد ثم فجأة توقفت، وإجراآت كثيرة اتخذت ثم تعثرت.
ولعل أقربها حادثة من هذا القبيل توقيف تجار سيارات، من طرف الشرطة الموريتانية للاشتباه في شرائهم سيارات حكومية. على إثر تحقيق قامت به وزارة المالية في 2022. وإعلانها المثير للجدل عن اختفاء أكثر من 900 سيارة حكومية.
كما سبق وأن أعلنت وزارة المالية الموريتانية في عام 2021 شروعها في جرد شامل لممتلكات الدولة المنقول منها والثابت.
ووفق بيان صادر عنها، ابتعثت الوزارة حينها فريقا خصا للقيام بحصر أسطول الدولة من السيارات، وقام الفريق خلال تلك الفترات بزيارات ميدانية لجميع ولايات الوطن.
ولكن الخبر الصادم الذي لم يتوقعه الموريتانيون هو إهمال الحكومة لنتائج هذا التحقيق. بعد إعلانها اختفاء كم هائل من السيارات العمومية، إثر تفتيش جزئي غير شامل لكل القطاعات الحكومية.
تفاصيل مثيرة للقلق
وقبل أن تنتهي عملية التدقيق أعلنت وزارة المالية حينها اختفاء 961 سيارة حكومية في الفترة مابين 2015 – 2020.
وبحسب بيان صادر عنها، فإن 505 سيارات من مختلف الأصناف اختفت، يبنما منحت 304 أخرى بصفة غير قانونية.
أما السيارات التي خرجت من المرآب الإداري بدون رجعة فبلغ عددها 60 سيارة، هذا بالإضافة إلى الكشف عن وجود ما يناهز 92 سيارة ذات ترقيم عادي منحت لغير مستحقيها.
اختفاء هذا الكم الهائل من السيارات أثار القلق لدى كثير من المواطنين خاصوصا عند علمهم أن التفتيش حينها جزئي وليس كاملا.
وهذا ما يعني احتمال الكشف عن المزيد من السيارات المختفية، لو استمر التحقيق.
كيف يحتال المسئول؟
تختلف طرق الاستيلاء على المركبات الحكومية وتتعدد، وتحكى فيها روايات كثيرة ومتشعبة.
لكن أقربها للواقعية هو ما تحدثت به مصادر من الإدارة الموريتانية، و بعض تجار السيارات الذين تحدثوا لـ (موقع تحديث).
وحسب هذه المصادر التي فضلت عدم ذكر أسمائها، أن الطرق الأكثر استخداما يمكن حصرها في عمليتين:
عملية للنافذين:
وهي من أجل الإخفاء المؤقت والاستغلال الشخصي العادي، وفي هذه يستغل المسؤل المقال أو المستفيد الأصلي نفوذه وعلاقته بالمفتشين لإقناع خلفه في الإدارة بالتغاضي عن السيارة والاستغناء عنها، ليستمر هو في استغلالها في شئونه الخاصة.
أما المسئول الجديد فيبدأ في إعداد مسطرة قانونية لشراء سيارة جديدة أخرى على حساب المؤسسة.وهكذا مع مرور الوقت تضيع السيارة إلى الأبد.
العملية الثانية للمافيا:
وهي الأخطر وهي مرحلة الإخفاء النهائي والاستهلاك الكلي يتم تغيير الرقم الشاصي أو الهيكلي المعرف بالمركبة والمسجل لدى السلطات أو محو بعض أرقامه، لتصبح السيارة مجهولة، ليقوم صاحبها بتسجيلها بديوانة جديدة.
وهنا يضيف المصدر يبقى المعني بين خيارين يبيع السيارة في الأسواق الداخلية، أو في حال خوفه من المتابعة يتم تهريبها إلى مالي وبيعها هناك.
وحسب نفس المصادر، فإن بعض المسؤولين أيضا يسلكون طرقا أخرى أكثر أمانا للالتفاف على السيارات العمومية، وإبعاد التهمة عنهم.
وذلك بتقديم تقارير عن سيارتهم في نهاية المهمة الموكلة لهم أو المشروع الذي كانوا عليه، تفيد تلف السيارة بسبب تعرضها لحوادث أو غيرها وبذلك يجد مبررا لاستمرار في استغلالها، وتخرج من دائرة العمومية إلى الخصوصية وتنتهي إلى الأبد.
تتبع وإجراءات
وفي تعميم الوزارة الأولى الجديد، دعا الوزير الأول المختار ولد اجاي حكومته إلى الحرص على التطبيق الصارم للتعليمات التي من بينها “أن يتم تسجيل السيارات ضمن السلاسل المخصصة للتسجيل الحكومي (مثل SG، IF، إلخ)”
لكن المقلق أن هذه الصرامة اللغوية هي نفسها التي واجهت بها وزارة المالية المحتالين في 2022, حيث أكدت أنها ستتبع الأسطول الضائع حتى تسترجعه. وتحدثت تقارير صحفية أحينها نه تم بالفعل العثور على بعضها لدى مسئولين سابقين.
ومن ضمن تلك الإجراءات “التسجيل المحاسبي للأسطول المنقول للدولة، والعمل على ضبط الترقيم الرسمي لهذا الأسطول. هذا بالإضافة إلى ضبط مسطرة اقتناء السيارات لمصلحة مكاتب المراقبة والإدارة في إطار الصفقات العمومية، “.
وأكدت المالية حينها اتخاذ إجراءات استباقية في انتظار اكتمال التحقيق من أجل ضبط ممتلكات الدولة من السيارات وذلك بعد اكتشافها لخروقات خطيرة في التحقيق الذي لم يكتمل بعد إلى اليوم.
فهل كان إهمال تلك التحقيقات و الإجراءات وحفظ الملف باعثا على إحباط الرأي العام وهز ثقته بالنظام في قراراته الحديثة؟
أم أن جدية النظام في محاربة الفساد والمفسدين، لم تعد محل شك في مأموريته الجديدة؟