الحضور، والتأثير، والاعتدال..مساهمات الدبلوماسية الدينية في كسب معركة الاستقلال.

حبيب الله مايابى-أستاذ الحضارة والإعلام بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية.
((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ))
قبل 65 عاما كانت بلادنا تكافح لتحقيق استقلالها الذي نخلده في ال28 من نوفمبر ، ومثل أي بلد يريد إثبات وجوده على المسرح الدولي واجهتنا عقبات سياسية متعددة ومتنوعة.
ولكن دبلوماسيتنا الدينية والعملية والثقافية، ساهمت بشكل كبير في تذليل هذه العقبات، فقد اعتلى علماؤنا ومشايخنا جميع المنابر الثقافية في مشارق الأرض ومغاربها، وشيدوا لنا مجدا مكّن الساسة من الركون إليه في تحقيق الاستقلال.
وقد يكون من نافلة القول إن الدبلوماسية الدينية ” Religious Diplomacy“ من أكثر الأدوات إقناعا لكونها تنطلق من الدين الذي يشكل عاملا مشتركا بين الشعوب، وتؤسس عليه جسور التواصل والسلام والمحبة.
إن ما نسميه الدبلوماسية الدينية، يعود له فضل كبير في تحقيق الاستقلال الذي نخلد ذكراه هذه الأيام، ذلك أن السمعة الحسنة التي بناها الشناقطة جعلت من الإنسان الموريتاني جديرا بالتقدير أينما حل وارتحل.
وعندما حصلت موريتانيا على ميلادها العسير، وبدأت في مسيرة التعريف، والبحث عن الاعتراف، لم تجد صعوبة في تسويق نفسها.إذ أن العرب والأفارقة والأسيويين وحتى الأوروبيين عرفوا الموريتانيّ قاضيا ومربيا ومعلما وسياسيا وشاعرا قبل قيام الدولة الحديثة بعقود.
إشعاع في المغرب وفي باريس
وفي القرن ال19 كانت الدول العربية والإسلامية تعيش على وقع حراك علمي وثقافي للخروج من حقبة الأفول والانحطاط، فشكل ذلك اهتماما بالعلماء الذين خرجوا من قلب بلاد المرابطين نظرا لموسوعيتهم واعتدالهم.
وبعدما أحكم المستعمر قبضته على موريتانيا كجزء من المستعمرات الأفريقية، كان العلامة الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل الذي خرج من منطقة الحوض قد أسس للشناقطة عنوانا في المغرب وسمعة في عدد من الأقطار.
وفي عام 1907 حل العلامة الشيخ محمد العاقب بن مايابى وإخوته في المغرب ضمن وفد كبير كان قد خرج مهاجرا بعدما عجزت المقاومة وآل الحكم للمستعمر.
ولما حل الشيخ محمد العاقب في بلاد المغرب أرسل بيتين للسطان مولاي عبد الحفيظ هما :
لما تولّى على الإسلام رايته مولايَ عبدُ الحفيظ الفاطم الحسنِي
جئنا إليك بحال غير لائقة كيمــا نؤوب بحــال لائق حــسنِ.
فلما قرأ السلطان البيتين قال: “ائتوني بمذكر الحال ومؤنثه في بيت واحد”.
وقد أعلى السلطان مكانة الشيخ محمد العاقب وصحبه، وصارأخوه الشيخ محمد الخضر مفتيا للبلاط الأميري، واستطاع لفت أنظار المجتمع المعرفي من حوله وأسس بذلك سمعة لبلاد شنقيط.
وبعدما هاجر أبناء مايابى نحو المشرق كان الفتى العالم الأديب محمد البيضاوي الشنقيطي قد بقي في ربوع المغرب، فعزز رصيده المعرفي بلغة مولير وكبرت مكانته عند السلاطين حتى أصبح واليا لإقليم “تارودانت” فأطلق عليه “ الشنقيطي باشا تارودانت“.
وبالإضافة لعمله السياسي واهتمامه الفقهي، ساهم البيضاوي في إحياء المدرسة الأدبية في المغرب تاركا بصمة ” الشنقيطي” حاضرة بين أعيان الفكر والأدب.
وحينما ذهب في بعثة لباريس قال قصيدته الشهيرة التي أصبحت من عيون الشعر الشنقيطي المتحضر.
لا تخش من شعرك المختار عيلته مهما قضيت بطيب الأنس ليلته
وارفع من العيش ما قد كان منخفضا وانشر على صحف التبليغ رحلته
إلى فرنـسا سـمـاء المجد ممتطيا نجائبالعزم ما ترتاد حيلته
….
من جاء باريسَ واستجلى روائعها ولم يغض من الطرفين ويلته
فكم قتيل بها يمشي على قدم لأن عين المهاأحسن قتلته…
ولم يكتف البيضاوي الشنقيطي بالساحة المغاربية بل تجاوز إشعاعه إلى فضاءات أوروبا.
ففي ثلاثينيات القرن الماضي مكنته معرفته باللغة الفرنسية من الحضور في الإعلام الفرنسي عن طريق مقالاته وترجماته للكثير من كتب الفلاسفة الأوروبيين،فشكل بذلك دبلوماسية معرفية للشناقطة ضمن ذلك العالم الذي يحترم الأدباء والمفكرين.
تمدد نحو المشرق
وفي المشرق العربي، حضرت الدبلوماسية الدينية قبلأن تصل الماكينة السياسية، وساهمت في فتح الآفاق أمام السياسيين للتعريف بدولة موريتانيا.
ففي مصر كان محمد محمود ولد اتلاميد التركزي محط أنظار المجتمع المعرفي وحقق تصحيحه للقاموس شهرة نادرة لبلاد شنقيط.
كما كان محمد حبيب الله ولد مايابى حاضرا في الأزهر بلقبه حبيب الله الشنقيطي، وعهد إليه الأزهر بتدريس الحديث الشريف، وفيه ألف كتابه الفريد “زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم”
وفي فلسطين كان للشناقطة حضور قوي عن طريق الدبلوماسية الدينية، وقد بدأت طلائعها مع دفين القدس الفقيه بوب بن أحمد مولود اليونسي الولاتي الذي حل في أرض فلسطين عام 1820.
لكن الشناقطة شكلوا استثناء فريدا في عالم الحضور والتألق المعرفي مع تولي الشيخ محمد الأمين ولد مايابىمنصب قاضي القضاة وزير المعارف والتربية في مملكة الأردن.
ونظرا لمكانته عينه الملك الأردني عبد الله الأول بن الحسين على لجنة أوقاف القدس، ورئيسا للجنة إعمارقبة الصخرة المشرفة بالمسجد الأقصى.
فحفظ التاريخ للدبلوماسية الدينية الموريتانية أنها كانت مسؤولة عن صيانة القدس وإعماره.
وقد استغل الشيخ علاقاته مع الأردنيين والسعوديين لصالح الدولة الموريتانية بعدما تم تأسيسها كما سنبينه لاحقا.
وفي المملكة العربية السعودية تعرف الملوك على موريتانيا عن طريق الحضور العلمي القوي للشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب كتاب “أضواء البيان“ والذي كان من مؤسسي رابطة العالم الإسلامي.
مكاسب كبيرة
وبفعل جهود علمائها الذين نشروا العلم في ربوع العالم الإسلامي، سرعان ما أصبحت موريتانيا ( شنقيط) دولة معروفة بعد استقلالها، وفتح لها ملوك العرب صدورهم وأعطوها العناية ومولوا لها عددا من المشاريع المهمة.
وعندما زار الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز رحمه الله موريتانيا عام 1972 قال إنه مثل كل رؤساء الدول العربية والإسلامية مدين لموريتانيا بفعل ما تقدمه للعالم من خدمة الدين الإسلامي ونشر الدعوة إلى الله.
وفي خطابه الشهير بمناسبة زيارته لموريتانيا، قال الملك فيصل “إن موريتانيا على مر التاريخ بفعل علمائها تقوم بجهود عظيمة في سبيل تحقيق السلام والاستقرار في العالم“.
ونتيجة لدبلوماسية العلماء الشناقطة، كانت زيارة الملك فيصل التاريخية إلى موريتانيا ناجحة إلى أبعد مدى.
وخلال تلك الزيارة، التزم لبلدنا بكثير من المشاريع، كان من أهمها الشروع في بناء المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية الذي انطلق إشعاعه 1979، كأول مؤسسة للتعليم العالي موريتانيا.
وكانت نظرة الملك من وراء إنشاء المعهد العالي تقوم على دعم العمل الريادي الذي تلعبه دبلوماسيتنا الدينية، فجاء المعهد العالي ليكون منظما للمحظرة ورافعا من قيمة علمائها.
وعلى نفس المنحى، كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله ينظر للموريتانيين أنهم قوم يبذلون جهدهم في نشر الدين الإسلامي الخالي من الانحراف والبدع.
فقام بزيارة إلى نواكشوط عام 1974 استغرقت 3 أيام، والتقى فيها بالعلماء والفقهاء والقضاة.
وقد شكلت زيارته فرصة لموريتانيا، إذ مول لها الكثير من المشاريع المهمة، كما قدم قرضا سخيا بقيمة 40 مليون درهم إماراتي للمساهمة في إنجاز طريق الأمل.
وقد فتحت زيارة الشيخ زايد بابا للموريتانيين، حيث طلب من الدولة إرسال قضاة ومفتين إلى دولته، نظرا لإعجابه بعلمائها.
وهكذا اهتمت العديد من الدول بالحضور اللافت للعلماء الشناقطة، فأرادوا دعم محاظرها ومؤسساتها التي تخرج العلماء.
فقد موّلت الأردن 1991 المعهد المهني لتكوين خريجي المحاظر، وأرسلت أجهزة وطواقم تدريبية وتأهيلية من أجل دعم طلاب المحاظر وتكوينهم في مجال الحياة النشطة عبر اللغات والطباعة، والتعليم في مجالات أخرى.
الاستمرار ومتطلباته
ولا شك أن العالم اليوم بفعل العولمة وتطور وسائل الاتصال صار كتلة واحدة، وقد أصبحت الدول تنفق ميزانيات ضخمة لحراسة قيمها وثقافتها وخصوصياتها،ومن ثم العمل على تصديرها.
وخليقٌ بالدولة الموريتانية أن تعمل على تنمية دبلوماسيتها الدينية وتسويقها، خصوصا أنها دبلوماسية ناعمة يمكن تسويقها نظرا للمعطيات التالية:
ومن أجل القدرة على تنمية دبلوماسيتنا وتسويقها لا بد من الانطلاق من ما يلي :
وانطلاقا من هذه المعطيات نأمل من الجهات المعنية أن تعمل على تنمية المكانة الثقافية والدينية المرموقة والحرص عليها كما كانت، من حيث بعدها عن التطرف والغلو، والانحراف والخرافة.
ولا بد من الاقتناع بأن موريتانيا لم تحقق نجاحا يضاهي مكاسب دبلوماسيتها الدينية، وعلينا أن نستمر في استثمار تلك النجاحات التي مكنتنا من انتزاع مكانتنا في دول العالم.



