ثقافة وفن

“الصفر الديني”.. الفيلسوف الذي تنبأ بسقوط الاتحاد السوفييتي يرصد مؤشرات انهيار الغرب

عندما كان طالب دكتوراه في الخامسة والعشرين من عمره، تنبأ الفرنسي إيمانويل تود بسقوط الاتحاد السوفييتي. فبدت توقعاته مضحكة للأوساط السياسية والأكاديمية.

كان ذلك في السبعينيات وكان الاتحاد السوفييتي حينها ندا قويا للغرب على الصعد العسكرية والاقتصادية والسياسة. وحينها كانت الحرب الباردة على أشدها بين المعسكرين الشرقي والغربي.

وبدلًا من دراسة أوضاع البلاد باستخدام أدوات التحليل السياسي التقليدية، استطاع تود من خلال الدراسات الديمغرافية، أن يشرّح المجتمع السوفياتي، وأن يصل إلى استنتاجات ثبتت صحتها خلال 13 عامًا.

لقد سقط الاتحاد السوفييتي على تحو غير متوقع. وتحولت الأنظار إلى الباحث إيمانونيل تود وبات يعتبر أحد أبرز فلاسفة وعلماء العصر.

ملامح انهيار الغرب

والآن تنبأ تود بانهيار الغرب، في كتابه (هزيمة الغرب) الصادر العام الجاري.

منذ تسعينيات القرن الماضي ينبه تود إلى أن ظلم الغرب للفلسطينيين وتجاهله لمحنتهم لا بد أن يتم تقويمه، وأنه لا يمكن أن يعيش الغرب على ذكريات الحرب العالمية الثانية ألف عام.

كذلك يصل تود إلى درجة القول بأن إيران ينبغي أن تمتلك سلاحًا نوويًّا. لأن هذا هو الحل الوحيد لكي يسود السلام في المنطقة ويتوقف جيش الاحتلال الإسرائيلي عن طغيانه.

وبينما يحارب الغرب في أوكرانيا، ويساند إسرائيل في حربها الإبادية ضد الشعب الفلسطيني، يأتي تود ويقول للغربيين إنهم في طريقهم إلى الهزيمة.

ويبين لهم من خلال مؤشرات متعددة وبيانات هائلة أنهم على شفا الانهيار. ويقول تود إنه حاول في هذا الكتاب أن يتحرر تمامًا من الخوف من الأحكام الأخلاقية وأن يقرأ المشهد بشكل علمي غير مؤدلج.

نبوءة جديدة

وبعد سنوات من تنبُّئِه الناجح بانهيار الاتحاد السوفياتي، عاد تود ليستخدم نفس الأدوات الإحصائية بشكل أساسي ليقدم نبوءة جديدة.

ونبوءتُه هذه المرة هي هزيمة الغرب. وذلك في الكتاب الذي صدر عن دار غاليمار للنشر في بداية هذا العام (2024)،

ومن خلال هذا الكتاب ومادته العلمية الوفيرة يبرهن تود على العجز الصناعي في الولايات المتحدة الأميركية وانحدار التعليم بها منذ الستينيات.

ويبرهن أيضًا على السقوط الروحاني والديني وتفكك الروابط العائلية وتفضيل دول من العالم لنموذج الدول المعادية للغرب. ومن خلال هذه الأشياء يرسم صورة قاتمة لمستقبل الغرب.

تمامًا كما نظر في الماضي إلى الإحصاءات السكانية الصغيرة التي توقع من خلالها أن الفساد قد استشرى في الاتحاد السوفياتي إلى حد يهدد بانهياره، يعود الآن وينظر إلى نفس الإحصاءات في روسيا.  حيث يجد الأمر قد تغير تمامًا.

ففي حكم بوتين انخفض معدل الوفيات نتيجة إدمان الكحول في روسيا من 25.6 من كل 100 ألف نسمة إلى 8.4 من كل 100 ألف نسمة.

وانخفضت حالات الانتحار من 56,934 حالة إلى 20,278 حالة. وانخفضت جرائم القتل من 41,090 جريمة إلى 9,048 جريمة قتل.

كما انخفض معدل الوفيات السنوية بين الرضع من 19 من كل 1000 طفل في عام 2000 إلى 4.4 في عام 2020. وأهمية هذا الرقم بالنسبة لتود أنه أقل من المعدل الأمريكي البالغ 5.4.

بالنسبة لتود فإن مؤشرات مثل تلك أهم بكثير من المؤشرات الغربية السيّئة السمعة بحسبه حول الفساد وما إلى ذلك، التي يرى أنها مفتقرة إلى المعايير الموضوعية.

فبينما تُظهِر تلك المؤشرات الغربية أن الغرب متفوق بفارق كبير على خصومه، يُظهِر الفرق بين عدد وفيات الأطفال الرضع في روسيا والولايات المتحدة الأميركية أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر فسادًا من روسيا.

تقدم وتأخر

يبين تود بالأرقام كيف تقدمت روسيا وتخلفت الولايات المتحدة الأميركية. فقد صارت الولايات المتحدة تنتج من السيارات ومن القمح أقل مما كانت تنتجه في ثمانينيات القرن الماضي. بل إنها أصبحت تُكوّن مهندسين أقل ممن تُكوّنهم روسيا.

وهذا ليس قياسًا بعدد السكان فحسب، بل وفق الأرقام المطلقة. هذا فضلًا عن النقص الحاد في شهادات الدكتوراة التي حصل عليها الأميركيون في مجال الهندسة في العقود الأخيرة.

وبينما يتجه الروس إلى الوظائف التي تتقدم بها الأمم يتجه الأميركيون أكثر فأكثر إلى وظائف قطاع الخدمات والقانون والتمويل.

وهي الوظائف التي لا تُوجِد القيمة وإنما تنقلها فقط داخل الاقتصاد، وقد تقضي عليها في بعض الأحيان.

أهداف قصيرة المدى

وبشكل عام، يرى تود أنه بينما كانت الحكومات الغربية المنتخبة تركز دائمًا على تحقيق أهداف قصيرة المدى توفر لها إعادة انتخابها مرّة قادمة، كانت حكومات الدول المنافسة للغرب تتمتع بخطط أطول مدى جعلتها تحقق تقدمًا ملحوظًا في بلادها، وعلى الصعيد الدولي.

يخلص تود إلى أن الوضع المتعلق بالاقتصاد والتعليم والفساد يشير إلى أن الغرب على شفا حفرة من الهزيمة أمام خصومه.

كما أن تود يولي مساحة أخرى اهتمامًا كبيرًا ليستخلص من خلالها اقتراب هزيمة الغرب. وهي مساحة العلاقات الأسرية والحياة الروحية والدين.

ويرى -مثل الكثير من الفلاسفة-  أن الإصلاح الديني البروتستانتي كان العمود الأساسي الذي بنى عليه الغرب نهضته التعليمية والاقتصادية، إذ أعلت البروتستانتية من قيم العمل والتعليم، والآن يلاحظ تود أمرين أساسين:

أولهما أن النخبة البروتستانتية التي بُنيَت على أكتافها سابقًا الحضارة الغربية من خلال قيم العمل والعلم، تحولت الآن لتصبح عصابات حاكمة في العواصم الغربية مشبعة تمامًا بأفكار النيوليبرالية والجشع.

بل إنها قد فقدت وجودها في واجهة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال، فلأول مرة في الحكومة الأميركية الأخيرة (حكومة جو بايدن) لم يعد هناك وجه بروتستانتي أبيض.

بل صار اليهود يسودون الوظائف الحكومية العليا.

ويؤكد تود أنه هو نفسه ينتمي لسلالة يهودية، لكنه يحاول أن يوضح كيف يؤثر الأمر في السياسة.

والعامل الآخر،  هو ما يسميه تود الوصول إلى الصفر الديني في الغرب بقطبيه الكاثوليكي والبروتستانتي؛ مما أنتج فوضى في القيم والمعايير وتغييب معنى الحياة.

فلم تعد المجتمعات الغربية تعاني فقط من الافتقار إلى الروحانية والقيم والمعاني. بل وصل فيها الاقتناع الديني إلى الصفر، وهو ما جعل القيم الغربية غير جذابة لبقية العالم بعكس الماضي.

لقد صار الغرب عنوانًا للعدمية، وأصبح نموذج الأسرة الغربية -بعد شهد نظامها القائم على الأب تدميرًا كبيرًا في العقد الأخير- نموذجًا يهدد الحياة الاجتماعية فضلًا عن كونه لا يجذب الاحترام في عيون العالم.

—————

المادة اختصار لمقال للكاتب محمد عزت على موقع الجزيرة نت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى