ثقافة وفن

جمهورية الشيخة حسينة.. العجوز الصماء التي يطيعها الجنرالات والقضاة

مفارقة الخصب والفقر، وأرض الكبرياء والقطن والزحام. سردية الرصاص على ضفتي نهر ناف، وقصص الثأر والانتقام وأساطير الملاحم والبطولات، وصراع المصلحة والحب في العلاقة مع التاريخ والجغرافيا.

 

بنغلاديش\كوكس بازار-سيد أحمد الخضر 2017*

عندما أبلغت الاستشاري وفاء الكمالي نيّتي السفر إلى بنغلاديش ورغبتي في تلقي تطعيمات عن مجموعة من الأمراض. رد علي باسما: قل يا سيدي إنك راحل إلى الشيخة حسينة واجد.
في اليوم الموالي، استقبلتني الشيخة حسينة بمطار “حضرة شاه جلال الدولي” في العاصمة دكا، ومن ثم قابلتها في المدن والبلدات والقرى. ورافقتني في رحلاتي إلى صعيد القيامة على الحدود مع ميانمار.
لقد علمتُ أن السبعينية البنغالية أمّ الإنسانية وبطلة السلام العالمي ومعلّمة الأجيال ومنقذة الوطن من الضياع.
تقول اللافتات والشاشات العملاقة إن الشيخة حسينة تجسد سخاء السماء تجاه الأرض.
ويرافقها في الصورة رجل وقور وخط الشيب رأسه، ويبدو كأنه يتوجس من الخيانة والغدر.

القصر والدماء

في منتصف أغسطس عام 1975 عاشت بنغلاديش ليلة حالكة. وعندما تمدد الضوء في الأفق، علم المواطنون أن الدماء غمرت القصر، وأن حقبة مهمة من تاريخ الجمهورية قُبرت في مكان مجهول.
أعدم الضباط رئيس البلاد وبطلها ومهندس انفصالها عن باكستان. الشيخ مجيب الرحمن، ثم قتلوا حرمه وجميع أبنائه وبناته، ما عدا حسينة وريحانة اللتين كانتا في رحلة إلى ألمانيا.
تلا العسكر بيانهم الأول. ثم ما لبثوا أن تنازعوا السلطة وبغى بعضهم على بعض، فتحولت بنغلاديش إلى أفشل دولة وأفقرها وأقلها استقرارا في القرن العشرين.
لم تتوان الشيخة حسينة عن المواجهة والانتقام، وسرعان ما قررت أن ترث أباها وتثأر له، في الوقت نفسه.
في عام 1981 انتُخبت رئيسة لحزب “رابطة عوامي” الذي كان يقوده والدها. وفي عام 1996 ورثت سلطته بفوزها في الانتخابات. وتولت قيادة الحكومة في يوم مشهود.
لاحقا، جلبت الضباط إلى القضاء وساقتهم مكبلين إلى الموت، فابتهجت الجماهير للقصاص من قتلة الشيخ مجيب الرحمن.
في عام 2001 فقدت الشيخة حسينة السلطة بخسارة الانتخابات. وتعرضت في 2004 لمحاولة اغتيال سالت فيها دماء كثيرة.
وفي 2008 أعادتها الانتخابات إلى قمرة القيادة، ومن ثم هيمنت على المشهد وأحكمت قبضتها على الجيش والقضاء وكل المؤسسات.
وعندما سألتُ مرافقي عن سر غياب أنشطة رئيس الجمهورية عن الصحافة المحلية، قال إنه “ينام جيدا بالليل. وفي الصباح يقدمون له أوراقا يوقعها دون تردد. نشاهده على التلفزيون في صلاتي الفطر والأضحى”.

الرهبة والرغبة

تحكم الشيخة حسينة بنغلاديش بأدوات الحاضر واعتبارات التاريخ فيطيعها الناس رهبة ورغبة. وتبدو منهمكة في نشاط محموم يعكس أنها لا تفكر أبدا في التقاعد.
القطب الثاني بالمشهد البنغالي هو الحزب الوطني الذي تقوده خالدة ضياء. وهي سيدة أخرى سبق أن ترأست الحكومة لولايتين وتمدّ إلى السلطة بسببي المظلومية والتاريخانية، لكونها أرملة الرئيس الجنرال ضياء الرحمن الذي اغتيل عام 1981.
القوة السياسية الثالثة يمثلها “حزب الجماعة الإسلامية” الأكثر تعرضا للقمع نظرا لاعتبارات عديدة، بينها نهجه الديني وعلاقته التاريخية بباكستان.
الكثير من البنغاليين يصفون الشيخة حسينة بالقمعية والمتسلطة. ويقولون إنه ليس بإمكان أي سياسي معارضتها إلا إذا كان السجن أحبّ إليه من السكوت.
لكن كثيرين أيضا يؤيدون العجوز الصارمة ويرون فيها صلتهم بالماضي المجيد وأملهم إلى بر الرفاه. بعدما أثمرت سياساتها انتعاشا اقتصاديا لا يختلف حوله الناس.

الدين وإكراهات الجغرافيا

تقع بنغلاديش في جنوب شرق آسيا. وتغص ببشر يبلغ تعدادهم 163 مليونا، يزدحمون في مساحة لا تتجاوز 147 ألف كيلومتر مربع فقط.
وبينما تقربها وشائج الدين من باكستان، تربطها السياسة والجغرافيا بالهند التي تطوقها من كل الجهات، ما عدا نافذة خصام بأقصى الجنوب الشرقي تطل منها على ميانمار.
يستلقي الشطر الجنوبي من بنغلاديش على خليج البنغال. وتتزين ضفافه بحقول الأرز ومزارع الموز وجوز الهند وأشجار السوباري والبامبو.
يتحرش موج الخليج العنيف بالمباني والمنشآت بتكناف وكوكس بازار والعديد من القرى والبلدات. وتستقطب شواطئه السياح من مختلف أنحاء العالم في الفترة من أكتوبر وحتى مارس من كل عام.
عندما زرنا بنغلاديش كان المطر يغسلها مرتين في اليوم، فتفيض الأنهار لتغمر المياه مساكن القرويين وحظائرهم ومزارعهم.
ومنذ زمن بعيد، تستوطن في هذا البلد مفارقة الخصب والفقر. فبينما تجود السماء بالغيث وتنبت الأرض من كل الطيبات، يستقرّ البؤس في المدن والقرى ويخوض الناس كفاحا مريرا لتأمين القوت.

شارع في سن المراهقة

تقول الأرقام الدولية إن بنغلاديش تنمو اقتصاديا بشكل مذهل بفعل أداء مصانع القطن والنسيج، لكن الناس هنا يشكون البطالة والغلاء ويبعثون أبناءهم للتسول في الشوارع أو العمل بأجر زهيد.
تزدحم الشوارع والأسواق بالأطفال وبالشباب الأقل من عشرين عاما. مما يوحي بأنك في دولة فتية، ولكنها منكوبة في الوقت ذاته، فالطبيعي أن يلتحق هؤلاء بالمدارس والجامعات.
يشكل المسلمون نحو 90% من السكان، يليهم الهندوس بنسبة 8%، بينما تتوزع النسبة الباقية على المسيحيين والبوذيين وديانات أخرى.
لا يخفي الشارع البنغالي حنقه من بطش البوذيين بالمسلمين الروهينغا في ميانمار المجاورة. ولكن السلطات والأحزاب والهيئات المسلمة تعمل على تجنيب البلاد خطر الاقتتال الديني.
لقد حضرتُ احتفالات سلمية وهادئة نظمها البوذيون في بنغلاديش بمناسبة عيد “اكتمال القمر”، لتخليد “ذكرى عودة بوذا إلى الأرض بعد أن أمضى ثلاثة أشهر مع والدته في الجنة”.
وأثناء تجولي بقرية نيلا البوذية على الحدود مع ميانمار، سألت الطفل بابو: هل تشعر بالخوف في هذه الأيام؟ فكان رده: هذا الرجل يحميني.
وهذا الرجل هو الضابط البنغالي حسين عريف المرابط برجاله في القرية لضمان أمن سكانها وتمكينهم من أداء شعائرهم في معبد فخم ينتصب على الشارع العام وتسدد السلطات تكاليف استهلاكه للمياه والكهرباء.
هجمات التطرف نادرة في بنغلاديش. إنها تختلف عن باكستان من حيث السلام الديني والثقافي. هنا تتجاور المساجد والكنائس والمعابد، وتسير السافرات والمتبرجات في ذات السبيل التي تسلكها المنتقبات والمحجبات.

الأرز والتوك توك

اليالبنى التحتية هشة حتى في المدن السياحية، والازدحام المروري يخنق الشوارع طوال اليوم، بينما يمثل “التوم توم” (توك توك) وسيلة النقل الأكثر راحة والأقل تكلفة. إذ تقلك منفردا داخل المدينة بـ60 تاكا، أي 0.7 دولار.
و”التوم توم”  عربة ثلاثية العجلات مكشوفة الخصر خضراء اللون أنيقة المظهر. تتسع لأربعة أشخاص، وقودها الغاز أو الكهرباء، يصنعها جيرانهم في الهند ولا يتجاوز سعرها 1000 دولار.
في 2010، زرت إندونيسيا لكتابة تقارير عن آثار تسونامي، واستغربت أن الأرز مكون رئيسي لموائدهم حتى في إفطارالصباح.
لكن الأطباق الناصعة البياض تبدو أكثر أهمية هنا في بنغلاديش، فهم يتناولونها في كل حين. وتعني لهم الحاضر والمستقبل أيضا. وقد قرأت تقريرا بصدر صحيفة “ديلي ستار” المحلية عنوانه “حقول الأرز الجديدة تعني أمالا كبيرة”.

الملامح والطباع

البنغال في ملامحهم أشبه بالهنود، لكنهم في طباعهم وأمزجتهم أقرب إلى الباكستانيين، وربما أكثر منهم حدة واعتدادا بالنفس.
يبدو الجيش البنغالي منضبطا وإنسانيا في تعاطيه مع أزمة الروهينغا، حيث يحمي المخيمات ويسهل عمل موظفي الإغاثة والصحفيين.
لكنك تلاحظ في ذات الوقت غضب الضباط وتأهبهم للحرب مع ميانمار التي تستفزهم يوميا وتتقوى بعلاقاتها العسكرية بالصين والهند. بينما لا يمكن لبنغلاديش الاستنجاد بباكستان نظرا لضغائن التاريخ وإكراهات الجغرافيا.
التحالفات الإقليمية تضع بنغلاديش في وضع صعب لو دخلت في حرب مع ميانمار. ولن تتلقى دعما عسكريا جدّيا إلا من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بالنسبة لتوقعات المواطنين العاديين.
رغم كل ذلك، لا يساور البنغاليين أدنى شك في قدرة جيشهم على اجتياح ميانمار خلال ساعات معدودة، عندما تأذن القيادة السياسة للجنرالات في شن الحرب.
طبعا، القيادة السياسة تعني الشيخة حسينة. فقد حذرت الضباط قبل أيام من الانجرار وراء استفزازات الجيران، وأمرتهم بالبقاء على أهبة الاستعداد في انتظار أوامرها.

مقال ملحمي

يُسهب البنغال في تمجيد بطولاتهم وعشقهم للمواجهة وكرههم للغدر. ويروون قصصا كثيرة عن بسالة مقاتليهم عندما ينفد صبرهم.
هذه المعاني يجسدها مقال ملحمي كتبه اللواء علم فضل الرحمن ونشرته وزارة الدفاع البنغالية على صفحتها على الفيسبوك.
يقول اللواء علم فضل الرحمن إن الجيش البنغالي تغاضى كثيرا عن خطايا ميانمار على ضفاف نهر “ناف” في تسعينيات القرن الماضي. وعندما طفح به الكيل وبلغ السيل الزبى قرر مواجهتها في وضح النهار.
يروي فضل الرحمن أنه كان قائدا لحرس الحدود، وشن حربا على ميانمار عند الثانية ظهرا في يناير عام 2000 فقتل 600 من جنودها خلال ثلاثة أيام. وبعدها جنحت للسلم وطالبت بالتسوية عبر الحوار.
لم يسعفني الوقت لتدوين الكثير عن بنغلاديش، فقد كانت مهمتي نقل محنة الروهينغا الذين نشؤوا على أن المسلمين كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. وعندما نُكبوا خُذلوا فاستضافهم الجوع والمرض وافترستهم السباع والضباع وسط المستنقعات.
وبعدما أنجزت سلسلة تقارير عن قوارب الفجيعة وطوابير الهوان ونزل القيامة وسردية النزوح والرصاص، حزمت حقائب العودة وودعتني الشيخة حسينة في مطار “حضرة شاه جلال الدولي”.
وحينها تنبهت إلى أن الاستشاري العراقي أتحفني بعنوان، وكتبت لكم جانبا من بلاد الأرز والقطن والزحام، وعن العجوز الصماء التي يخافها الساسة والقضاة والجنرالات.
—ملاحظة: المشاهدات سجلت في 2017. قبل أعوام من الإطاحة بالشيخة حسينة وهروبها في 2024.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى