بعد هجرة أبنائها.. مدن الداخل الموريتاني تستقطب العمال الأجانب

اخيارهم زيني-لكصيبة1
في وسط سوق مقاطعة لكصيبة1، كان النيجري باشيرو مختار منهمكا في ترتيب بضاعته على جانب الطريق وهو يتحدث إلينا عن سعادته بما يكسبه من المال، وعلى بعد خطوات من المكان كان أمّدو ولد إيميجن يتحسر لأن ابنه البكر هاجر قبل سنوات للعمل في نواكشوط، ولا يتمكّن من زيارة العائلة إلا مرة واحدة كل عام.
وفي كل حي من هذه المدينة الواقعة بجنوب موريتانيا، تتكرر قصتا باشيرو وجبريل. ففي الوقت الذي يكسب الأجانب المال ويعيشون رغدا، لا تستهوي الفرص المتاحة الكثير من المواطنين فيتركون ذويهم ويستقرون في نواكشوط أو يهاجرون خارج البلاد.
بشيرو الذي قدم إلى موريتانيا عام 2001 بحثا عن حياة أفضل له ولأسرته التي تقطن في النيجر، ينشط في بيع الأحذية والإكسسوارات ومستلزمات الهواتف الذكية.
يروي لموقع “تحديث” أنه ذهب إلى الجزائر ومن ثم عاد إلى النيجر، ولاحقا اكتشف أن موريتانيا هي الأفضل من حيث جني المال من دون عوائق أمنية.
لا يخفي بشيرو مختار سعادته بامتلاك شقة وسط المدينة ينام فيها ليلا ويلتحق باكرا بالسوق على دراجة نارية اشتراها قبل عام بـ 300 ألف أوقية قديمة، عندما كان في رحلة تجاريه في قرى “الزكيلم” التابعة لمقاطعة مونكل الواقعة بجنوب البلاد.
يقول باشيرو “كنت أظن أن هذه البلاد فقيرة وتنعدم فيها فرص العمل نظرا لما كنت أسمعه عن نسبة هجرة الشباب فيها، لكن أتضح لي أخيرا أن جلهم يفضل عدم العمل في مجالات عدة، وهو ما دفعني أنا وزملائي لاستغلال الفرصة ودخول سوق العمل هنا”.
وغير بعيد من بشيرو التقينا بابن أخته جعفر الذي وصل لكصيبة قبل أسابيع قادما من قرية موريتانية يعمل فيها خاله. وينوي جعفر الالتحاق بالعمل في لكصيبة والبقاء فيها لمدة سنتين.

رجل من المدينة يشكو
وفي ذات السوق التقى موقع “تحديث” بأمّدو ولد إيميجن، وهو مزارع وإمام مسجد في حي الجديدة الذي يقع جنوب المقاطعة. كان الإمام يتحسّر لأن ابنه البكر جبريل هاجر قبل سنوات إلى العاصمة الموريتانية نواكشوط للعمل في طلاء البيوت وصباغتها.
يروي أمدو أن ابنه جبريل لا يزوره إلا مرة واحدة كل سنة، مضيفا أنه يتحرق شوقا لرؤيته وغير راض عن هجرته من المدينة، خصوصا وأنه يمتلك مزرعة ويعمل فيها لوحده في فصلي الشتاء والصيف.
ويضيف الإمام المزارع “جبريل غادر ليس لعدم وجود عمل بل لأنه يفضل العمل في العاصمة نواكشوط، بعيدا عن أعين أسرته التي يظنها تستخف بممارسته لمهنة الزراعة”.

ومثل أمدو تشتكي عوائل كثيرة من هجرة أبنائها إلى نواكشوط وحتى إلى الخارج وخصوصا الولايات المتحدة. ويرون أن هجرة الشباب سببها الأول فشل السياسات الحكومية التي لم تبق للشباب خيارا غير الاغتراب، حسب تقديرهم.
وتشتهر مقاطعة لكصيبه1 بكونها تربط بين ولايات كديماغا وكوركول ولعصابة وبقربها من نهر السنغال، كما تتميز بتنوعها العرقي والثقافي حيث تنسجم فيها جميع مكونات المجتمع الموريتاني، بالإضافة إلى احتوائها على مساحة معتبرة من أرض شمامة المعروفة بخصوبتها الزراعية.
تعتمد لكصيبة في اقتصادها على الزراعة والثروة الحيوانية، حيث تزود بلحومها الحمراء مناطق عديدة من البلاد.
وحسب الإحصائيات الأخيرة التي قامت بها الدولة الموريتانية، فقد وصل تعداد سكان المقاطعة الوليدة إلى 41275 نسمه.

جنسيات عديدة ومهن مختلفة
وقد أصبحت لكصيبة1 مستقرا لمهاجرين من جنسيات أفريقية كالنيجر ومالي والسنغال، يعملون في مجالات التجارة والأعمال اليدوية والبناء.
ويقول العمدة السابق والمستشار البلدي الحالي السيد محمد ولد الداه إن عمل الأجانب يسد الفراغ الذي تركته هجرة أبناء المقاطعة عنها.
ويضيف ولد الداه أن المنمين في لكصيبة أصبحوا يبحثون عن أجانب من دول الجوار لمساعدتهم في رعي قطعان الماشية.
ولا يتوقف الخطر عند هذا الحد، فقد لفت المستشار في حواره مع موقع “تحديث” إلى أن الزراعة في المدينة تشهد تدهورا نظرا لعزوف الشباب عنها، وتركها للنساء والشيوخ في الغالب، وهو ما يحد من عائدات هذا القطاع.
ورأى العمدة السابق للمدينة أن كبح هجرة الشباب يتطلب من الدولة إنشاء بعض المشاريع التنموية التي تناسب المنطقة مثل إقامة مصانع للألبان.
ويطالب ولد الداه الدولة الموريتانية بالعمل على تكوين الشباب ومتابعتهم بعد التكوين المهني لإيجاد فرص عمل لهم في مناطقهم وقراهم .
وليست لكصيبة استثناء بين مدن الداخل من حيث هجرة الشباب وترك فرص العمل للأجانب، إنما تنطبق هذه الحال على باركيول وكرو وكيهيدي والعيون وكيفة وغيرها، حيث تعمل جاليات أجنبية في مهن البناء وتصليح السيارات وحتى الخدمة المنزلية.

أرقام مرعبة
وقد شهدت موريتانيا في السنوات القليلة الماضية هجرة أعداد هائلة من الشباب نحو الولايات المتحدة وأوروبا وأفريقيا.
وقبل أشهر، وقعت الحكومة الموريتانية اتفاقا مع الحكومة الإسبانية حول الهجرة الدائرية بموجبه تتولى وزارة الإدماج والضمان الاجتماعي الإسبانية إبلاغ موريتانيا عن فرص العمل المتاحة لديها.
وقد نشر مؤخرا المعهد الوطني للهجرة في هندوراس مرور 4077 مهاجرا موريتانيا غير نظامي من أراضي هندوراس نحو الولايات المتحدة، في الفترة ما بين عام 2016 ومنتصف عام 2024.
وذكرت بيانات للجمارك وهيئة حماية الحدود الأميركية أن 8500 مهاجر غير شرعي قدموا من موريتانيا إلى الولايات المتحدة، ليلتحقوا بنحو 8000 آلاف يقيمون بشكل رسمي في بلاد العم سام.
وتشير الإحصائيات إلى أن معظم المهاجرين الغير شرعيين من موريتانيا تتراوح أعمارهم بين 21 و 35 عاما، وبينهم أيضا نساء.
ويبدو أن هؤلاء قد تركوا وراءهم فرصا ومهنا مدرة للدخل استقطبت أعدادا كبيرة من الأفارقة ومن العرب، يتواجدون بكثرة في العديد من مقاطعات موريتانيا.
وعندما يرخي الليل سدوله على لكصيبة1 يمتطي النيجري بشيرو دراجته عائدا لشقته، فيما يستعين اهل إميجين وغيرهم على مكابدة الشوق بالتواصل مع ذويهم المغتربين عبر الواتس آب.