ثقافة وفن

رؤياه لا قصيدتي.. سجين فك بشعره أغلال سجين آخر أيام القذافي

محمد بوراس

البقاء في البيت استدعى ذكريات وأياما اتفقت في لزوم المكان واختلفت في رخائه ونعمائه، تذكرت أياما من السجن كنا قد مكثنا خلف الباب الموصد من زنزانتنا عاما أو يزيد قليلا، في سجن بوسليم المركزي أو العسكري لا أذكر، وكلاهما شر.

كانت الزنزانة في القاطع الثالث، يفصل بينه وبين القاطع الأول ساحة كان من المفترض أن يخرج إليها السجناء.

نبدأ يومنا بصلاة الصبح ثم ننام قليلا، نصحو لأخذ الطعام ثم نأكل ونتبادل الأحاديث التي أغلبها مكرر، فقد استنفدنا كل شيء، نتفرق، منا من يرجع للنوم ومنا من يأوي إلى القرآن وآخر يقرأ.

وكان من الترويح عن النفس عند بعضنا هو الصعود إلى الشباك وتبادل الأحاديث والأخبار مع سجناء القاطع الأول، بل رأيت بعضهم يلعبون الشطرنج كل من قاطعه.

يومٌ ينتهي وقد شبع عبادةً وعلما ومدارسة وأحاديث، ولا يخلو من اللهو، نصلي العشاء، بعضنا يأوي إلى فراشه، ومنا من يبدأ أسمار الليل التي كنت أهواها لما أجد فيها من ترويح وأشعر معها أني الحر لا يقيده شيء.

في بعض تلك الأسمار قال لي أخي مصطفى إنه في حديثه نهارا من الشباك مع صاحبه في القاطع الآخر ذكر له رؤيا رآها سجين لابث في سجنه قريبا من عشرين سنة، رأى في رؤياه أنه لن يخرج من سجنه حتى يأتي سجين آخر يقول شعرا في محنته فيقرؤه صاحب الرؤيا ثم يخرج من سجنه بعد ذلك.

يقول لي صاحبي مصطفى: أرأيت يا محمد لو قلت في محنة فلان شعرا فلعل الله يكتب له فرجاً وتكون رؤيا حق، فقلت له أنا لا أقول الشعر وإنما هو كلام انتظم، وعبر حديثنا في تلك الليلة كما عبر غيره في غيابات السجن.

 

ملصق يضم صور سجناء ليبيين قضوا في سجن بوسليم في حقبة القذافي
ملصق يضم صور سجناء ليبيين قضوا في سجن بوسليم في حقبة القذافي

بعد أيام وعندما صلينا العشاء انزوى كل أصحابي، كل في فراشه، وحسبتهم ناموا وصرت الساهد الواجد، أتذكر ما أتذكر، فأحزن مرة وأبتسم أخرى، حتى قرع خاطري حديث مصطفى ورؤيا صاحبه، فعزمت على الأمر، وقلت سبعة عشر بيتا نسيتها كلها إلا مطلعها:

لو أنَّ بَثّاً لِمَنْ شِئْنَا بَعَثْنَاهُ .. لَكَانَ كَالْغَيْثِ لِلأحبابِ سُقْنَاهُ

وآخر أردده دائما:

مَرّتْ وُجُوهٌ بِنَا كالنّجْمِ في عددٍ .. ولا حراكَ لنا فَلْيَرْحَمِ اللهُ

أكملت كتابتها ووضعتها جانب فراشي ونمت بعدها قريرا كأنني خارج غداً من سجني، أيقظني مصطفى لصلاة الصبح فنظرت إليه مبتسما وأنا على شوق لأعطيه القصيدة.

صلينا الصبح ثم اقتربت من فراشي وأخرجت الورقة ودفعتها إلى مصطفى وقلت له ابعثها إلى الحاج ونيس لعل الله يقضي أمراً ويخرجنا معه بهذه القصيدة، ففرح بها وصار يترقب طلوع النهار.

كان سجناء القاطع الأول، ومنهم الحاج ونيس صاحب الرؤيا، يخرجون صباحا إلى الساحة بيننا وبينهم، فلما سمع مصطفى أصواتهم صعد إلى الشباك وخاطب صاحبه وقال سلم هذه الورقة للحاج ونيس.

قرأ الحاج ونيس القصيدة وسعد بها وسأل عني فأخبروه باسمي ولقبي فعرف جدي، أنا لم أره وهو لم يرني، قرأ قصيدته وتحققت رؤياه، فكانت آخر ليلة يبيتها في السجن، كان ذلك قدر الله وحوله وقوته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى