الرأيتقارير

مذكرات بورجي.. النظرة الأخيرة على العنفوان الفرنسي في موريتانيا وإفريقيا 

بابا ولد حرمة

قد تكون شمس فرنسا في الساحل، وفي عموم إفريقيا، قد آلت إلى الأفول، غير أن أيام مجدها الغابر ما تزال تثير الشجون وتسيل مداد من كانوا ذات يوم في قلب ما تطلق عليه الصحافة (الفرنسية)، لملمةً للخيوط المتشابكة وتجاوزاً لما بين السطور، فرنسا-إفريقيا France-Afrique.

ولا يمكن النظر فيما تسطره هذه الأقلام أيامنا هذه إلا بوصفه وقوفا على الأطلال الفرنسية في إفريقيا، وبكاءً على ما انقضى من أيام الوصل والنفوذ. ولعل انصرام ذلك العهد ورحيل أغلب شخوصه قد أفسحا المجال أمام الجيل الأخير ممن شاركوا في المغامرة الفرنسية ما بعد الاستعمارية ليتحدثوا، وفق ما تسمح به الأطر الناظمة للبوح في باريس، عما كان لبلدهم من نشاط في إفريقيا ذات يوم.

وفي هذا الإطار تتالت مذكرات عسكريين ودبلوماسيين ورجال مخابرات فرنسيين يمكن وصفها بالنظرة الأخير على ما كان لباريس في القارة السمراء من سطوة ورسوخ، لا سيما في ضوء صعود الوافدين الجدد إلى إفريقيا من صينيين وأتراك وروس.

ويمثل كتاب ضابط الاستخبارات جان بيير أوجيه Jean-Pierre Augé الصادر هذا العام 2024 بعنوان l’Afrique Adieu: Mémoires d’un officier du secteur Afrique noire de la DGSE وداعاً إفريقيا: مذكرات ضابط من قسم إفريقيا السوداء في الإدارة العامة للأمن الخارجي نموذجا من هذه السردية. كما تطفح مذكرات القائد السابق لأركان الجيش الفرنسي François Lecointre فرانسوا لوكوينتر، Entre Guerres بين الحروب باستعراض الروح القتالية العالية للجيش الفرنسي.

وقبل نحو أسبوع، أصدر المحامي الفرنسي “مستشار الظل” ذو الأصول اللبنانية -سنغالي المولد والنشأة صاحب العلاقات الإفريقية الواسعة والتجربة والدراية العميقتين بدهاليز السلطة الفرنسية وعلاقاتها المتشابكة مع الدول الفرانكفونية في إفريقيا- روبير بورجي Robert Bourgi، كتابه Ils savent que je sais tout يعلمون أني أعلم كل شيء.

وفي هذا الكتاب يسرد بورجي رحلته الطويلة ضمن شبكة العلاقات التي نسجها بداية الثمانينيات مع زعماء أفارقة من قبيل أويفويت بوينيي ولوران غباغبو في كوت ديفوار وعمر بونغو في الغابون وعبدو ديوف وعبد الله واد في السنغال وموبوتو سيسي سيكو في الكونغو الديمقراطية (زائير سابقا)، وغيرهم.

تروي هذه المذكرات التي تمتد على أكثر من 600 صفحة، وتأخذ شكل حوار صحفي بين بورجي والصحفي فريديريك ليجيل Frédéric Lejeal، مسارا طويلا افتتحه بورجي من كوت ديفوار، حيث انخرط خلال الثمانينيات في جمع التبرعات لحزب التجمع من أجل الجمهورية بقيادة جاك شيراك، مواكبا إياه في عمادة لباريس فرئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية سنة 1995، ثم عمله بعد ذلك في ظل حكم نيكولا ساركوزي.

ومستغلا خلفيته الإفريقية وعلاقاته الوطيدة مع الزعماء الأفارقة، وسائراً على نهج مرشده ذي التوجهات اليمينية الديغولية، “مهندس الاستعمار الفرنسي الجديد لإفريقيا،” جاك فوكار Jacques Faucart، أنشأ بورجي شبكة ضغط ومصالح أدرت عليه أموالا طائلة، ومكنته من فرض نفسه في المشهد الإفريقي الفرنسي على مدى عقود.

وبعد حديثه عن صولاته وجولاته الطويلة بين باريس وأبيدجان وكنشاسا وليبرفيل وواغادوغو، وحمْـل عشرات الحقائب المتخمة بأموال عمر بونغو وأوفويت بوينني وغيرهما من الزعماء الأفارقة إلى شيراك، وتسهيله عشرات اللقاءات بين الأخير والرؤساء الأفارقة، وإسناد المغضوب عليهم من باريس، يأتي الدور على النخب المالية والعسكرية  الموريتانية في الفصل الحادي والعشرين للحديث عن انقلاب 2008، بعد مرور خاطف بنواكشوط نهاية السبعينيات، حيث عمل بورجي أستاذا بالمدرسة الوطنية للإدارة، بعد توصية من جاك فوكار للرئيس المختار ولد داداه بتوفير وظيفة له.

روبير بورجي… العضو العاشر في المجلس الأعلى للدولة

يحمل هذا الفصل عنوان “انقلابيون في قصر الإليزيه” ويسرد فيه بورجي كيف سعى لدى نيكولا ساركوزي الذي كان حينها رئيس فرنسا ويتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي لإقناعه بدعم قادة الانقلاب وكسر الحصار الذي كانوا عرضة له.

ويبرز إلى الواجهة في هذه الجهود رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو الذي ربط الاتصال ببورجي. ولن يجد الأخير صعوبة في فتح قناة اتصال بالإليزيه عبر أمينه العام كلود غَــيان Claude Guéant الذي استقبل ولد بوعماتو والقائد العام لأركان الجيش الموريتاني، حينها، الرئيس الموريتاني الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني، وكريم واد نجل الرئيس السنغالي السابق والوزير في حكومته. كما حضر الاجتماع مستشار ساركوزي للشؤون الإفريقية، برونو جوبير Bruno Joubert الذي يبدو أنه كان أكثر تمسكا برفض الانقلاب من الأمين العام للإليزي.

ولا يخفي بورجي إعجابه بغزواني وبـ”حضوره المهيب” وينقل رده الحازم على مستشار ساركوزي للشؤون الإفريقية جوبير، وبحديثه عن وقوف “لخيام لكباراتْ les grandes tentes” في موريتانيا خلف هذا الانقلاب، وتآكل شعبية الرئيس المنقلَـب عليه  الراحل سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، وفق تعبيره.

وينقل بورجي كيف نجح هذا الاجتماع في تذليل الموقف الفرنسي الصارم من الانقلاب، وكيف سعى هو وغَـيان خلال لقاءاتهما بساركوزي إلى إقناعه بدعم محمد ولد عبد العزيز. كما يذهب إلى القول بأن تصرفات جوبيرْ خلال هذا اللقاء وردوده على غزواني كانت وراء إقالته من منصب مستشار ساركوزي للشؤون الإفريقية.

ويتتبع بورجي بعد ذلك مظاهر انفتاح باريس على محمد ولد عبد العزيز وسعيها لدى الزعيم الليبي معمر القذافي الرئيس الدوري للاتحاد الإفريقي حينها لتمهيد الطريق أمام محمد ولد عبد العزيز، واستقبال عزيز قبيل الانتخابات الرئاسية في باريس سنة 2009. كما يشير إلى اللقاءات التي عقدها غزواني ووزير الخارجية الراحل محمد ولد محمدو مع مسؤولين فرنسيين ساميين في باريس في نفس العام.

ويؤكد أن كل المسؤولين الموريتانيين كانوا حينها مجبرين على المرور ببوابته للوصول إلى الإليزيه خشية أن تقابل طلباتهم للقاء بالرفض، وفق وصفه. كما ينقل مشاركته بصفة غير رسمية في حفل تنصيب الرئيس عزيز بعد فوزه في انتخابات 2009.

ينفي صديق الرؤساء الأفارقة أن يكون قد تقاضى أي أتعاب مقابل ما قدم لولد بوعماتو وغزواني من خدمات. وذاك أمر قد يستغربه القارئ إذا استصحب ما صرح به بورجي في ثنايا الكتاب عن عمله وفق قواعد مجموعات الضغط الأمريكية، وابتعاده تمام الابتعاد عن أي عمل تطوعي أو إنساني. ويقدم بورجي نماذج من تلك العمليات، وما استلم مقابلها من أموال، كما كان الحال في عمليات إسناده للرئيسين السابقين في زايير (الكونغو الديمقراطية) وبوركينا فاسو موبوتو سيسي سيكو وبليز كامباوري.

وإذا أضفنا إلى ذلك حديثه دون تحفظ عن الأموال التي كانت تصل إلى شيراك ونفيه حصول ذلك مع ساركوزي، فهل يجوز لنا استنتاج أن بورجي يتحدث دون تحفظ حين يتعلق الأمر بالراحلين، ويبقي طي الكتمان بعض الأمور حين يتحدث عن نافذين ما تزال علاقاته قائمة بهم حتى الآن؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى