إبراهيم الدويري
كثيرا ما اشتكى مؤرخو الثقافة في المغرب الإسلامي الكبير من قلة تآليف علمائهم، وعزوف كتابهم عن التصنيف والتدوين، فـ”لم يظهر من علماء فاس شيء من التآليف المرتجلة ولا الملخصة”، حسب المقري (ت1041هـ) في ’أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض’، وعلى نهج الزهد المغاربي في التأليف سار الشناقطة فلم تعبر مؤلفاتهم القليلة عن مستوى العلوم وازدهارها في ربوعهم، فغلبت عليهم ثقافة الرواية والمشافهة، واستغرب العلامة الإصلاحي باب ولد الشيخ سيديَّ عزوف علماء بلده عن التأليف التاريخي “مع كثرة ما وقع فيها من الأمور الكبيرة التي ينبغي الاعتناء به، وكثرة من كان بها من الأكابر من كل صنف”.
عوامل عديدة رسخت ثقافة عزوف الشناقطة عن التأليف، منها عامل الإقليم الجغرافي في الزهد المغاربي عموما، ومنها طبيعة العيش والتنقل يوم جعلوا ظهور العيس لهم مدارس، وكثرة التنقل والترحال شاغلة عن تصنيف العلوم، مزهدة في تدوين الأخبار والتواريخ، وهذا العامل الأخير انتفى حين استقروا في بعض المدن والعواصم الشرقية قديما فألفوا الكتب والموسوعات مثل ما فعل محمد محمود ولد اتلاميد التركزي، وأحمد الأمين الشنقيطي العلوي، ومحمد الأمين الشنقيطي “آبَّه”، وأبناء ما يابى، والشيباني ولد محمد أحمد وغيرهم من أجيال الهجرة الشنقيطية.
عطاء علمي مشهود
ومن الجاليات التي استدركت نسبيا النقص الشنقيطي في التأليف النخبة الموريتانية المقيمة في قطر، وهي جالية ذات عطاء علمي وثقافي مشهود يجمع بين التعليم بمختلف مراحله، والقضاء والإمامة والإعلام والتأليف، وتدريس العلوم الشرعية في المساجد وقد ختموا فيها كتبا علمية مؤسِّسة على مدار سنوات من التدريس المتواصل.
وأشهر تلك الأختام التي احتفلت بها الجالية ختم العلامة القاضي عبد الدائم ولد الشيخ أحمد أبي المعالي لموطأ الإمام مالك بن أنس يوم 03 فبراير 2024م، بعد حوالي خمسة عشر عاما من المواصلة والمواظبة، وللشيخ عبد الدائم شروح لأمهات الفنون في الأصول والقواعد والفقه، كما تجتمع الجالية وعدد من الجاليات الأخرى مساء كل يوم خميس على دروس العلامة الإمام الشيخ محمد الحسن ولد الددو في التفسير والحديث والمقاصد.
وبإلقاء نظرة عجلى على الموضوعات التي سدت بها نخبة الجالية الموريتانية ثغور التأليف، نجد كتبا ومصنفات في مختلف العلوم الشرعية والمتون العلمية والفكر والتحقيق والتاريخ الثقافي والعام والأدب والشعر والرواية.
في العقيدة كتب شيخ شمال قطر وأستاذ الأجيال فيه الشيخ العلامة محمد سالم ولد مود “عقود الإيمان في توحيد الرب الجليل على منهاج حديث جبريل” و”أربعون حديثا من أصح الصحيح في حق الحق وحق الخلق” كما ألف في الفقه “إتحاف الأمة بين الإيجاز والإفاضة في أحكام الحيض والنفاس والاستحاضة”.
علوم القرآن
وفي علوم القرآن وخدمة التفسير كتب الشيخ عبدالله أحمد محمود الحسني شرحا على “مراقي الأواه في تدبر كتاب الله” لولد أحمذي، وألف القارئ الفقيه الراحل إخليهن ولد حمود رحمه الله تعالى” الإتحاف بالعلم النافع في شرح ضبط قراءة الإمام نافع”، “وإتحاف أهل القربة بنظم قراءة شعبة”.
وألف الشيخ المفتي عبدالله ولد اجدود (العباد) “الضبط لعلمي الرسم والضبط”، وللشاب الباحث الدؤوب محمد يسلم ولد لمجود الفائز بجائزة شنقيط إسهامات بحثية متميزة ومعاصرة في علوم القرآن منها كتابه “تجديد المنهج في دراسة القرءان الكريم، قراءة في تراث الإمام عبد الحميد الفراهي”، مع بحوث أخرى محكمة في علوم القرآن والتفسير.
وفي المباحث الأصولية ألف القاضي الشيخ عبد الدائم عن “المصلحة المرسلة بين نفاتها ومثبتيها”، وكتب الداعية المفتي الدكتور أباي ولد محمد محمود “القواعد الأصولية المتعلقة بالمعاملات المالية”، وأعد “العذب المورود في اختصار فتح الودود شرح المقصور والممدود”، و”إيجاز الوجيز”، وشارك التحقيق: المساهمة في تحقيق “فتح الوهاب في بيان ألفاظ هداية الطلاب”.
وفي مجال الفكر كان للدكتور محمد المختار الشنقيطي دور بارز في نقل الكتاب الموريتاني إلى آفاق العالمية، فمستوى الإقبال في معارض الكتب الدولية كبير على كتبه “الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية”، و”أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية” و”الخلافات السياسية بين الصحابة” ورسائله الأخرى، وقد ترجم أغلب كتبه إلى اللغات الإسلامية في إفريقيا وآسيا.
الثقافة والتاريخ
وفي التاريخ الثقافي كتب الفقيه الشيخ محمد عبدالله بن أحمد بن أبات “البدور النيرات في تراجم علماء أهل ابات”، وهو مجلد ضخم يؤرخ لمحظرة من أعظم محاظر الإشعاع العلمي في الوسط الموريتاني استمر العلم في أبناء مؤسسيها قرونا عديدة، وخرجت أجيالا كثيرة لا سيما في الفقه المالكي والسلوك القويم، وللشيخ عبدالله مؤلفات أخرى منها “إرشاد هذا الجيل إلى معالم الفتوى وأهمية الدليل”، وشرح “بلوغ الغاية على نظم النقاية” في علم البلاغة للعلامة عبد الله بن الحاج حماه الله.
وكتب الدكتور الباحث الكبير سيدي أحمد ولد الأمير وبحوثه مشهورة في جوانب عديدة من التاريخ الثقافي، مثل “المقامات في الأدب الشنقيطي” و”المجال الموريتاني مقالات في التاريخ والثقافة”، وتحقيقه لحوليات العلامة المؤرخ المختار ولد حامد، و”كتاب الأغاني” له، و”امروك الحرف”، وتله رجماته وبحوثه المتواصلة في التعريف بالحضارة الشنقيطية العقلية والمادية.
وممن أبلى بلاء حسنا في توثيق التاريخ الثقافي كتب الدكتور الشاعر الكبير والأكاديمي المؤلف ادي ولد آدب فعلاوة على مصنفاته المؤسسة في الأندلسيات مثل ” المفاضلات في الأدب الأندلسي”، كانت كتبه عن مدرسة أهل آدب إنقاذا لتراث كاد يندثر فقد وثق أخبار “خنساء شنقيط” و”الشيخ أحمد ولد آدب”، و”سيدي ولد آدب” و”المقاومة الأخلاقية في أدبيات أهل آدب”.
وللدكتور سيدي محمد ولد عبدالله تأليف جليل عن “السند القرآني في موريتانيا” عرف فيه بالسند القرآني وأوضح عنواعه ودرس السند القرآني عند أهل شنقيط، وتناول موضوع الإجازة وشروطها وترجمة طرق السند الشنقيطي، ومن قبيل التاريخ الثقافي عندي كتاب المهندس محمد عمر ولد سيدي محمد ولد حيبالل “آمعيط: مدخل إلى معجم الحسانية”، وهو كتاب حضاري لطيف لا يستغني عنه المغترب ولا من نشأ بعيدا عن مضارب الحسانية، وله يوميات فتى صنهاجي يجمع بين أدب السيرة الذاتية والرحلات.
وفي مجال الرواية المعاصرة ضربت نخبة الدوحة بسهم وافر فيها فجاء “وادي الحطب” للدكتور الشيخ أحمد ولد البان ليكون أول رواية موريتانية تفوز بجائزة كتارا للرواية العربية وللشيخ أحمد تأليف ضاف عن ابن جني وخصائصه، ثم رواية الإعلامي أحمد ولد سيدي “الذيب” الفائزة بجائزة الشارقة للرواية العربية، ثم رواية “البراني” للإعلامي الأديب أحمد ولد إسلم الفائزة بجائزة شنقيط، ولأحمد رواية “حياة مثقوبة” وقصص “في انتظار الزمن الماضي”.
الرواية والشعر
وكان الأستاذ الأديب الإعلامي والروائي أحمد فال ولد الدين أحد رواد الرواية التاريخية فأعاد الجاحظ من القرن الثالث الهجري ليكون “حدقيا” مفتوح العينين على عصرنا، واستدعى الغزالي حجة الإسلام باسم “دانشمند”، وأرخ لشجون المحظرة على لسان وخواطر “الشيباني”، وكان ابن الدين اكتشف مهارته الروائية يوم كتب “في ضيافة كتائب القذافي”.
وفي ميدان الشعر الذي اشتهر به الشناقطة شرقا وغربا كان لشعرائنا سبح طويل في بحوره، فجاءت دواوين الشاعر الدكتور أدي ولد آدب معبرة عن “بصمة روحه”، مبتهلا في “صلوات القوافي” حاملا “وطنه على كتفه”، متتبعا “خرائط الوجع” مقيما في “فلسطين القصيدة”.
وبعده في السبح القريضي الشاعر المترجم محمد ولدإمام شارب “أنخاب الأصائل” في “أشعاره” بالنهار، ومبتهلا ليلا بـ”المناجاة” وهذه دواوينه الثلاثة، وله “كشكول الحياة: قراءات في الحياة والناس”، ثم يأتي الشاعر الشاب سيدي محم صالح عازف “ألحان مائية الإيقاع”، وختام مسك الدواوين ديوان “نبض الضمير” للخبير الإحصائي الشاعر والأديب اللغوي محمد عالي أكيبد، وهو ديون صدر منتصف هذا العام الميلادي الجاري.
تلك مساهمات قلمية من النخبة الموريتانية المقيمة في قطر كتبتها على عجل، وربما فاتتي عناوين كثيرة، ومؤلفون لم أعرفهم، أو عرفت أن لهم كتبا لم أتمكن وقت الكتابة من معرفة عناوينها مثل الشيخ الطالب زيدان بن الإمام، وهذه دعوة لجميع المؤلفين الشناقطة داخل البلد وخارجه أن يؤلفوا وأن يعرفوا بمؤلفاتهم وأن يطلعوا عليها القراء والمهتمين بالتاريخ الثقافي للبلد ليضعوها في سياقها ويعرفوا بها، والله ولي التوفيق.